د. طارق فهمي
تتحرك إيران مع تطور الأوضاع السياسية والاستراتيجية في منطقة الخليج العربي عبر استراتيجية واضحة المعالم، وتركز على ضرورة التعايش مع الأزمة والاستمرار في المراوغة، والتأكيد على نية الحوار والعودة للرأي العام الإيراني المغيب لتقرير مصير الاتفاق، والحوار مع الولايات المتحدة، والعمل على إنهاك الأطراف المعنية.
وهو ما اتضح بصورة جلية في التحرك الدبلوماسي والسياسي من جانب والعسكري والاستراتيجي، فرغم ما تريد أن تبرزه إيران من قدرتها على المواجهة وتحدي الجانب الأمريكي، والاستعداد للمواجهة المحتملة عبر خطة الداخل، وإعلان حالة الاستعداد في المواقع العسكرية المتقدمة لقوات الحرس الثوري في مناطق طهران وتبريز وأصفهان وغيرها من المدن الإيرانية، إلا أنه أمر مكلف للغاية في ظل ما يواجه طهران من صعوبات مالية وتزايد معدلات الفقر ونسب التضخم والبطالة وانهيار الوضع الاقتصادي في المؤشرات المعلنة.
من ثم فإنه من المستحيل أن يستمر هذا الوضع المكلف في الداخل، وفي ظل حالة الحراك المجتمعي الكبير التي تشهده بعض المدن الإيرانية، وتشير إلى حالة من السخط والتذمر على ما يجري ويرتبط بمعاناة المواطن البسيط الذي يواجه تصميما على التصعيد ضد الولايات المتحدة، وعبر توجيه مصادر الضخ المالي الكبيرة للوكلاء في الإقليم لتنفيذ الاستراتيجية الإيرانية الكبيرة، والتي تسعى لفرض النموذج الإيراني على الإقليم، هذا إلى جانب الدخول في مناكفات مفتوحة قد تؤدي إلى هيمنة كبيرة للمشروع الإيراني في مواجهة المشروعات الإقليمية الأخرى، ومنها المشروعان التركي والإسرائيلي، إضافة للمشروع الجديد لإعادة بناء شرق أوسط جديد وفق حسابات وتقديرات جديدة.
في هذا السياق ومع الاستعداد للتعامل مع الخيارات العسكرية والأمنية دخلت إيران، وعلى الخط نفسه في سباق دبلوماسي؛ حيث قام نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بزيارة لقطر والكويت وسلطنة عمان، فيما قام وزير الخارجية جواد ظريف بجولة في العراق، بهدف إحياء قنوات التواصل الدبلوماسي عبر وكلاء، وهو ما سيعطي الفرصة للحوار الإيراني الأمريكي أن يبدأ وفق حسابات إيرانية صرفة، وهو أمر يشير وبوضوح إلى تخطيط إيراني بتشغيل آليات الوساطة التي تضم دولا إقليمية إضافة لسويسرا، وربما دول أيضا من الاتحاد الأوروبي.
والمعنى أن إيران ترغب في استئناف الاتصالات والمفاوضات مع الجانب الأمريكي، ولا تريد الاستمرار في المواجهة الكاملة، خاصة أن الرئيس الأمريكي منح فرصة للجانب الإيراني في العودة، ومن ثم فإن حديث التصعيد الأمريكي ليس مرتبطا بخلافات في الرؤى أو تجاذبات في الآراء بين الخارجية الأمريكية والمخابرات الأمريكية من جانب والبيت الأبيض ومستشاريه من جانب آخر، فالرئيس ترامب يضع شخصيا وعلى رأس الأولويات الهدف من المواجهة التصعيدية الحذرة التي يدركها بالفعل الجانبان، ويعملان على تجنبها، خاصة أن الأعمال التخريبية التي قامت بها إيران عبر وكلائها في المنطقة توقفت، في إشارة إلى أن إيران تعي ما تقوم به، وتخطط للرجوع إلى حلبة التفاوض لبناء موقف تفاوضي جديد، وهو ما قد تتجاوب معه الإدارة الأمريكية بالفعل، ولكن في إطار منظومة من المصالح والحسابات الأمريكية، والتي تتوزع ما بين السياسي والأمني والاستراتيجي، والراهن والمحتمل في بناء اتفاق جديد ومختلف تماما عما كان أيام إدارة الرئيس السابق أوباما، مع الانتباه أيضا إلى أن الشركاء الأوروبيين يراهنون على اتفاق من نوع آخر.
والإشكالية الحقيقية ليست في الذهاب إلى نقطة تلاقي، فالمراوغة الإيرانية ستعتمد على إطالة أمد الأزمة بصورة كبيرة مع عدم التعجل في التجاوب مع الإدارة الأمريكية، وقد تلجأ للضغط على الرئيس الأمريكي نفسه لتجاوز دور مؤسسات صنع القرار للذهاب إلى التفاوض، وهو ما يريده البعض من رموز الإدارة من أمثال مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو.
والمعنى.. أن عزف الإيرانيين على الاستمرار في إدارة الأزمة بزاويتها السياسية والاستراتيجية والتحسب لكل الخيارات يجب أن يكون على المستوى نفسه، خاصة أن الرئيس الأمريكي لن يستمر طويلا على موقفه تجاه إيران، لا سيما أنه يريد أن يحقق مكاسب حقيقية في إطار إدارة أزمته مع الجانب الإيراني، لتكون مدخلا مباشرا لحملته الانتخابية 2020، ويتحدث انطلاقا من رؤية مستفيضة لقضايا برنامجه التي حقق منها الكثير أمام الرأي العام الأمريكي، والتي تؤهله إلى ولاية ثانية بسهولة، متجاوزا كل التحديات التي يمكن أن يجدها في الترشح.
في هذا السياق، فإن إيران ستذهب إلى التفاوض بعد أن تكون حققت مكاسب إدارة الأزمة بالفعل مع الولايات المتحدة، وفي ظل دعم غير مباشر من الجانب الأوروبي والصين وروسيا -هكذا تتصور-، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى سرد لما يجري على أرض الواقع، فصحيح أن الرئيس الأمريكي ترامب لم يرسل بعد آلاف العناصر العسكرية ولم يقم بعمل عسكري، إلا أن هذا الأمر لا يطمئن الجانب الإيراني، خاصة أن الحرب بالخطأ والمواجهة المحتملة يمكن أن تنشب فجأة ونتيجة خطأ من أحد الطرفين أو معاً.
ومن ثم فإن الأمر مرتبط بهدف محدد، وهو كيفية التوصل إلى نقاط توافق، ومتى تنتهي الأزمة فعليا أو على الأقل تتفكك عناصرها.
إن الإجابة ترتبط بممارسة أكبر ضغط سياسي واستراتيجي على إيران، ومحاصرة تحركاتها وليس تركها تناور، وتتحرك في مساحات التباين إقليميا ودوليا، وهو ما يبرع فيه الساسة الإيرانيون.
والحقيقية أن الإدارة الامريكية عليها مسؤولية سياسية واستراتيجية في التعامل مع الخطر الإيراني، ليس في الإقليم فقط بل خارجه، وهو ما يتطلب منها مراجعة سياستها في التعامل مع النظام الإيراني، والتي تعلن أنها لا تريد تغييره وإسقاطه، وإنما فقط العمل على تغيير توجهاته، وهو الأمر الذي يحقق مصالحها ولو الراهنة، مع العلم أن إيران -وفق تقارير الاستخبارات المركزية- تعد أكبر مهدد للمصالح الأمريكية في العالم، وأنها خطر حقيقي يجب التعامل معه وعدم تركه أو التعايش مع مخاطره.
من المؤكد أن الإدارة الأمريكية ستخسر كثيرا في حال ترك المجال للإيرانيين لاتخاذ الخطوة التالية، والتي قد تعطي لهم الفرصة الحقيقية لمزيد من المناورة، والمساومة السياسية حتى مع الإقدام على أعمال غير مشروعة أو تهديد المصالح العربية والأمريكية في الخليج العربي.
ويكفي هنا مراجعة الخطاب الإعلامي للمسؤولين الإيرانيين لندرك أن التهديد بغلق مضيق هرمز أو استهداف المصالح الأمريكية ليس مجرد تصريحات أو خطاب إعلامي موجه، بقدر ما هو يعبّر عن تحدٍّ حقيقي ورهان على امتلاك أوراق ضغط حقيقية في مواجهة الولايات المتحدة.
لن تختفي هذه التهديدات، بل ستبقى قائمة؛ حيث لن تتراجع إيران عن مشروعها السياسي أو الاستراتيجي، فالقضية بالنسبة للجانب الإيراني مرتبطة بالوجود كمشروع وليس كدولة كبيرة في الإقليم يمكن التعامل معها، وهو أمر خطأ شكلا ومضمونا لبلد يعاني بالفعل من أزمات هيكلية وحالة من الغليان، وحراك مجتمعي مكبوت وثورة كامنة، ومن ثم فإن على الولايات المتحدة أن تحذر من مخطط إيراني مع التعايش مع الأزمة، وتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية قبل الجلوس للتفاوض، فالمواجهة قد تحدث، ولو بالخطأ وسيليها بالتأكيد مواجهات من نوع آخر.