نعرف طبعاً أن المقارنة بين عملاقي الرواية الروسية بل الأوروبية في القرن 19، فيودور دوستويفسكي وليون تولستوي، كانت دائماً نوعاً من الشغل الشاغل لكثر من النقاد والدارسين منذ ظهور أعمالهما الأولى في حقبة متقاربة من الزمن.
لقد ظلت معركة المقارنة بين الاثنين سجالاً، إذ بقدر ما كان ثمة من النقاد والباحثين وحتى من القراء العاديين من يفضلون الكونت الأرستقراطي، الذي عرف كيف يتحول في آخر حياته إلى ثوري تحظره الكنيسة وتعاديه السلطات القيصرية، كان من بينهم أيضاً من يذهب تفضيله إلى ذلك المبدع الآخر الذي أنهى حياته مسيحياً إلى درجة متطرفة وقومياً سلافياً لا يشق له غبار بعد أن كان في شبابه ثورياً اشتراكياً، بل متطرفاً في اشتراكيته إلى حد الحكم عليه بإعدام لم ير النور.
الواقع أنه ليس ثمة من سبيل هنا لوضع لائحة تفصل ذلك الانقسام بين النظرة إلى كل من الكاتبين العظيمين وإن كان قد وجد دائماً من يرى أنهما دائماً ما يتكاملان وكأنهما شقا كينونة واحدة مع أن الحكاية تؤكد أنهما لم يلتقيا أبداً على رغم عيشهما في زمن واحد ومكانين متقاربين في المدينة نفسها، سان بطرسبورغ.
وعلى رغم أن ثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن كلاً منهما كان يعرف أدب الآخر ويقدره، ولعل حسبنا هنا أن نقفز إلى القرن 20 ليطالعنا عملاقان آخران من عمالقة الأدب ونقده هما فلاديمير نابوكوف وجورج شتاينر، فهما أيضاً اشتغلا على المقارنة بين الاثنين.
نابوكوف الروائي الروسي/ الأميركي الشهير بروايته الكبرى "لوليتا"، وفي حقبة عمل فيها أستاذاً للنقد الأدبي في الجامعات الأميركية، أبدى تفضيله "ألف مرة" لصاحب "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" على صاحب "الإخوة كارامازوف"، مستخفاً بأدب هذا أخير بلغة سطحية متسرعة، بينما كان الناقد جورج شتينر أكثر حصافة وإدراكاً مهنياً حتى وإن كان قد توصل إلى رأي مشابه، يفضل تولستوي لكن انطلاقاً من تحليل معمق في كتابه الكبير "تولستوي ودوستويفسكي"، وهذا على أي حال رأي انضمت إليه السلطات الستالينية في موسكو أواسط القرن 20.
ففي زمن المحاكمات الستالينية الشهيرة وما تلاها من مراحل قمع طالت الفنون والآداب بصورة عامة، لم تتوانَ تلك السلطات وحتى قبل ظهور جدانوف الذي كان الساعد اليمنى في المجال الثقافي لـ"أبي الشعب الصغير" (ستالين طبعاً)، عن منع طباعة أي من روايات دوستويفسكي أو أي نص ينظر إلى تلك الروايات نظرة إيجابية، حيث بالفعل ظل القراء الروس ممنوعين من متابعة أدب روائيهم القومي الكبير فيما العالم كله يبجله ويترجمه ويقتبسه.
في المقابل ازدهرت طبعات أعمال تولستوي الأدبية والفكرية وراحت تصدر عشرات الكتب والدراسات المحبذة لتلك الأعمال واضعة تولستوي عند قمة سامية ومكانة لا تضاهى (لا شك أنه كان يستحقهما على أي حال).
غير أن ذلك التبجيل لم يدم طويلاً، إذ وكما كان حال السلطات الستالينية، ليس فقط مع المبدعين الرجعيين الذين كان التخلص منهم قد تم منذ أيام لينين نفسه من دون هوادة، وليس فقط مع غلاة "الثوار الذين اشتطوا حتى منذ اندلاع الثورة الروسية تأييداً لها" قبل أن تخيب آمالهم فيدفعون بالتالي الثمن غالياً حين وصل ستالين إلى السلطة، بل حتى مع تولستوي نفسه الذي لو كان حينها حياً لكان من أول المذهولين أمام ما حدث له! فما الذي حدث؟
لنبدأ حكاية تولستوي مع سلطات بلاده منذ أيام لينين، فهذا الأخير كان معروفاً بإعجابه المطلق بأدب تولستوي كروائي، وكذلك كان مطلعاً بصورة إيجابية على كتابات هذا الأخير الفكرية والدينية ومقدراً بأعلى ما يكون الكتابات التي ذاعت في العالم.
لقد بلغ ذلك الإعجاب أن الزعيم الثوري الروسي كرس في عام 1908 لمناسبة الذكرى الـ80 لولادة الكاتب ثم في 1910 لمناسبة رحيله، خمسة مقالات عنه نشرت في الصحافة البلشفية التي كانت لا تزال سرية.
في تلك المقالات، وعلى عكس معظم الكتاب والمنظرين الماركسيين الروس ومنهم جورج بليخانوف الذي كان بمثابة زعيمهم في مجال النقد الأدبي، الذين كانوا يعتبرون أدب تولستوي "أدب نبلاء ذوي نوايا حسنة لكنهم يفتقرون إلى الحس الثوري الواعي" كما يخبرنا الفرنسي ميشال أوكلير مترجماً بعض أعمال تولستوي إلى الفرنسية، والخبير المعاصر لنا بالأدب الروسي، كان لينين يرى أن النقد الذي يوجهه تولستوي في نصوصه الروائية وغير الروائية، إلى سلطات الدولة والجيش والكنيسة ومجمل المؤسسات الحاكمة في روسيا القيصرية، مليئاً بالتعبير عن الإمكانات الثورية للطبقات الفلاحية الروسية ما يمكنه أن يكون استكمالاً للنظرية الماركسية الكلاسيكية التي تركز على الطبقة العاملة الصناعية والمثقفين الثوريين.
من هنا لم يكن غريباً أن يعنون لينين واحدة من كتاباته الأكثر حماساً عن تولستوي ما يفيد بأن كتابته ما هي إلا "مرآة للثورة الروسية"، وبالتحديد لثورة عام 1905 التي في رأيه "كان ينقصها وصاية البروليتاريا عليها" ولذلك فشلت.
يمكننا أن نفهم هنا، على ضوء هذا التحليل اللينيني الذي سرعان ما بات بعد انتصار الثورة البلشفية تمهيداً وذريعة لمجمل الكتابات المحبذة التي راحت تنتشر حول أدب تولستوي بخاصة أن واحداً من كبار المتخصصين بأدب هذا الأخير، الباحث فلاديمير تشيرتكوف -ودائماً هنا بحسب ما يفيدنا الفرنسي أوكلير– حصل من لينين ومنذ عام 1918 تصريحاً بالاشتغال على طبعة جديدة كاملة تشمل كل كتابات الكاتب الكبير لتصدر في نحو 90 مجلداً مع مقدمات وهوامش وكل ما يتطلبه الأمر.
الحقيقة أن تشيرتكوف انكب على مهمته بكل أمانة ومحبة لكاتبه الكبير المفضل حتى رحيله في 1936 حيث من الناحية المبدئية سيتابع العمل مساعده الرئيس نيقولاي روديونوف الذي انصرف بدور مشتغلاً بنشاط بحيث ما إن مضت 10 سنوات أخرى حتى كان قد أنجز إصدار 38 مجلداً. وعند ذلك كانت له السلطات الستالينية/ الجدانوفية، أي الحزبية بشكل عام، بالمرصاد.
في السابع من سبتمبر (أيلول) من عام 1946، وبالتوازي مع صدور عشرات القرارات المماثلة المتعلقة بفرض أنواع متعددة من الرقابات الحزبية على كل صنوف الإبداع في الاتحاد السوفياتي لا سيما على المبدعات الأكثر شعبية (موسيقى خاتشادوريان وشوستاكوفتش مثلاً)، أُعلن واحد من القرارات الجدانوفية أن مواصلة إصدار تلك الطبعة الكاملة لأعمال تولستوي معناها المساهمة في "إضفاء شعبية مفسدة على أدب هذا الكاتب" بالتالي الترويج للأدب البورجوازي. والمطلوب اليوم فرض رقابة تحول دون صدور ما هو رجعي ومتخلف من كتابات صاحب "القوزاق"، وبخاصة أن "المشرفين على الطبعة فاتهم أن يضعوا لكل إصدار تقديماً توضيحياً حاسماً يحلل، بل ينقض النص" من وجهة نظر ثورية لينينية. وهو أمر لا بد من أن تقوم به الآن "لجنة خبراء حزبيين" وإلا أفسدت "رجعية تولستوي" عقول المواطنين وأرجعتهم إلى العهود القيصرية وإلى سلطة الكنيسة. باختصار "لا بد الآن من تشكيل لجنة تمنع التراخي والدخول في الانحراف الأيديولوجي" من طريق كاتب له هذه المكانة في البلاد.
يومها لم يصغ روديونوف ورفاقه، لما قررته اللجنة، بل ببساطة تباطأوا في استكمال العمل وقد أحسوا بخطر وسخافة ما بات مطلوباً منهم. تابعوا العمل في صمت من دون أن يصدروا بالفعل أي مجلد جديد. فالقرار يمنع إصدار المجلدات من دون عرضها على الرقابة الحزبية، وهم لا يصدرون ما ينجزونه.
ولقد طال انتظارهم يومها سنوات حتى أتت نهاية ستالين والمرحلة الجدانوفية، لتبدأ المرحلة التي سماها إيليا إهرنبرغ مرحلة "إذابة الجليد". وهكذا استأنف روديونوف ورفاقه إصدار المجلدات محتوية على أي حال على حد أدنى من تعليقات كان لا بد منها.
في عام 1958 اكتمل إصدار المجلدات التي كان قد خطط لإصدارها قبل 30 عاماً بأقل الخسائر الممكنة، لكن في عام 2000 وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية بأسرها، عادت الحياة الأدبية إلى التحرك تولتسويا من جديد ليبدأ إصدار الأعمال الكاملة خالية هذه المرة من أي تعديلات ولو طفيفة على نصوص الكاتب الكبير، في وقت راح آخرون، من أنصار أدب دوستويفسكي هذه المرة يصدرون أعمال هذا الأخير من جديد ليعود التنافس الأدبي بين الاثنين إلى سابق عهده، لكن من دون أي تدخلات سلطوية هذه المرة، وربما حتى إشعار آخر. من يدري؟