رفتن به محتوای اصلی

سامي ريشا يروي الحب الشائك بين أيزيدية وطبيب لبناني

أيزيدية
AvaToday caption
بين بيئتين عانتا الحرب والتهجير والقتل، كل على طريقتها، على الرغم من الفارق الطبقي والاجتماعي و"الحياتي" بين البيئتين، فالشابة ناريمان تعيش حال الاقتلاع بعد المجزرة الرهيبة التي ارتبكها تنظيم داعش الإرهابي في سنجار عام 2014 ضد الطائفة الإيزيدية
posted onDecember 22, 2021
noدیدگاه

هل يمكن أن يقوم حب بين طبيب لبناني مسيحي وشابة أيزيدية عراقية؟ قد لا يكون مهماً أن نجد جواباً عن هذا السؤال، ما دام زمن العولمة قد هدم ولو ظاهراً، الجدران التي طالما فصلت بين الشعوب والهويات والإثنيات، لكن هذا السؤال يفترض طرح قضية المكان وما يمثل من ثقل في مثل هذه العلاقة. أي مكان هو الأكثر أهلاً لاحتواء هذا الحب، ببراءته وقوته، بعيداً من العوائق التي لا بد من أن تعترضه اجتماعياً وطائفياً؟ طبعاً ليس المكان بيروت والعائلة المسيحية التي ينتمي إليها الطبيب وليس أيضاً كوردستان أو سنجار التي تنتمي إليها الشابة، ولعل اللقاء الأخير الذي جمع بين كريم الطبيب اللبناني المسيحي وناريمان العراقية الإيزيدية المتخصصة في علم النفس، كان عليه أن يتم في مكان "محايد" هو مطار إسطنبول، وهو اللقاء الذي ظل مفتوحاً بين العاشقين اللذين قررا الالتحام أو ربما الزواج، بعدما أزالا كل العوائق أمامهما وانتصرا لحبهما الصعب. انتصر الحب في مطار إسطنبول، لكن المصير ظل مجهولاً مثل نهاية الرواية نفسها.

تطرقت روايات كثيرة إلى قضية الحب "المختلط"، لا سيما في بلدان تتعدد فيها الطوائف، ولم يبق من جديد يطرح في هذا القبيل، حتى الأفلام والدراما التلفزيونية استهلكت هذا الحب في العالم العربي، لكن ما جاء به الروائي الفرنكفوني وعالم النفس الطبيب سامي ريشا في روايته "العالم ليس بمثل هذا السوء" (دار كومبليسيته – باريس) يبدو فريداً، ليس فقط لأنه جمع بين طائفتين متباعدتين دينياً وعرقياً وسياسياً ووجودياً،  بل لأنه قرّب بين طائفة مضطهدة ومهمشة ومتهمة بما يسمى "عبادة الشيطان" هي الإيزيدية، وطائفة هي المارونية توصف بأقلويتها عربياً. عطفاً على جمعه من خلال كريم وناريمان، بين بيئتين عانتا الحرب والتهجير والقتل، كل على طريقتها، على الرغم من الفارق الطبقي والاجتماعي و"الحياتي" بين البيئتين، فالشابة ناريمان تعيش حال الاقتلاع بعد المجزرة الرهيبة التي ارتبكها تنظيم داعش الإرهابي في سنجار عام 2014 ضد الطائفة الإيزيدية وهجران أهلها إلى كوردستان العراقية. أما كريم فيعيش في بلد "مفكك" مهدد دوما بحرب أهلية واهتزاز اقتصادي وسقوط في هاوية الفقر والعوز والتفلت الأمني. ولئن جمع هذا القاسم المشترك رمزياً بين كريم وناريمان، فما فرق بينهما لا يبدو سهلاً أو عابراً، بدءاً بالشخصي وانتهاء بالعام الذي يشارك الآخر (العائلة، المجتمع، العادات) في ترسيخه، وقد أدرك كريم وناريمان كلاهما، نقاط الالتقاء والافتراق، وبدا من الطبيعي أن تكون ناريمان الأكثر تأثراً بها، فهي أنثى ومقتلعة و"خاضعة" لا تملك قرارها الحر، ولعلها في الاستسلام لنداء حبها في الختام وخروجها على السلطة العائلية والطائفية والالتحاق بحبيبها كريم في إسطنبول، تمكنت من إحداث ثورة في الذات أولاً وآخراً.

كان كريم التقى ناريمان في كوردستان العراق عندما كان في البعثة الطبية الإنسانية التي انضم إليها في سياق عمله التطوعي في البلدان التي تشهد حالات نزوح وتهجير وفي المخيمات مداوياً الجرحى والمرضى، وكانت هي تعمل في قسم الرعاية النفسانية مساعدة النازحين والمهجرين الإيزديين من سنجار والمسيحيين العراقيين الهاربين من الموصل، على استعادة حياتهم الطبيعية وتخطي الآثار السلبية التي تركتها فيهم معارك "داعش" ومجازره. عندما تعرف إليها هناك جذبته بجمالها ورقتها وعذوبة وجهها وفتن بها، ثم عاد إلى لبنان بعد إنهاء مهمته من دون أن ينساها.

غير أن الصدفة أبت إلا أن تجعلهما يلتقيان مرة أخرى في مطار إسطنبول. كان هو مدعواً إلى مؤتمر علمي تعقده مؤسسة أردنية إنجليزية مع أطباء جزائريين لا يجيدون الإنجليزية، وكانت مهمته الترجمة إلى الفرنسية، أما هي فكانت في دورة تدريبية في العاصمة التركية، مرسلة من قبل الجمعية الأجنبية التي تعمل معها. كان اللقاء هذه المرة حاسماً فالاثنان اكتشفا أن العلاقة القصيرة التي جمعتهما في كوردستان ما برحت متينة، وأنهما منجذبان بعضاً إلى بعض ولو خفية، وكانت جلستهما في مقهى المطار مثار مشاعر وحوار عن أحوال كليهما.

حدثته عن البؤس المتزايد في عالم المخيمات وعن هجرات الإيزيديين المتواصلة إلى ألمانيا ودول أوروبية، مما يعني خلو سنجار من أهلها. وحدثها هو عن لبنان، وعن ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) التي كانت اندلعت ليلة وصوله إلى إسطنبول ودفعته إلى المغادرة للفور بعد انتهاء المؤتمر، قلقاً ومتحمساً في آن واحد. تحدثا عن الربيع العربي في تونس والسودان والجزائر وحتى بغداد التي بدأ مواطنوها في التحرك، وقبل أن ينفصلا كل إلى طائرته تواعدا بحرارة، على التوصل هاتفياً، وهذا ما حصل.

يختلف كريم عن ناريمان بصفتهما شخصيتين رئيستين في الطباع والسلوك وفي الرؤية إلى العالم. كريم تنطبق عليه مواصفات البطل الإيجابي تمام الانطباق، فهو متفائل على الرغم من كل المشكلات التي يواجهها، سواء في بلاده أو في البعثات التطوعية. أما ناريمان فشخصية شبه سلبية، متشائمة، متوجسة، خصوصاً بعد معاناتها التهجير والنزوح وعيشها لحظات القتل والاعدام اللذين كان يمارسهما علانية تنظيم داعش، علاوة على مأساة سبي النساء الإيزيديات واغتصابهن. هذا الاختلاف يظهر من خلال تواصلهما اليومي عبر "واتساب" والرسائل الإلكترونية وسواها، وتبادلهما الحوار والنقاش في قضايا سياسية واجتماعية ودينية وعاطفية.

كان كريم في الـ 50 وهي في الـ 32، وبينهما 12 عاماً، هي إيزيدية مما يعني أنها تنتمي إلى جماعة نصف عربية ونصف كوردية، جذورها تضرب في أديم بلاد ما بين النهرين، وعددها يربو على 600 ألف شخص، وأرضها تتوزع بين العراق وتركيا وايران، علاوة على دينها الذي لم يركز الروائي ريشا عليه ولم يلق ضوءاً على عقيدته تاركاً القارئ يكتشفه بنفسه، وقد يكون منشأ تشاؤمها (غير الفلسفي) هو القلق الذي تعيشه جماعتها تاريخياً ووجودياً، والاضطهاد غير المبرر الذي يمارس ضدها، وكان كريم اطلع على مآسي النساء والفتيات الإيزيديات وما عانين من سبي واغتصاب من خلال استماعه إلى شهادات إيزيديات نجون أو فررن من أسر "داعش". وشهاداتهن قاسية وأليمة تفضح عنف الأصوليين وإجرامهم وحقارتهم، ومرة كاد التواصل "الواتسابي" بين ناريمان وكريم أن يتوتر كثيراً عندما أخبرته عن مشاهد إعدام بعض القتلة والمجرمين من "داعش" التي بثت على الشاشات وعن تحمسها للانتقام منهم وعقابهم لمصلحة الضحايا الأبرياء.

لم يتقبل كريم تحمسها هذا ورضاها عن أفعال الإعدام، فهو يرفض العنف كلياً ويعارض الإعدام مؤثراً سجن القتلة، وردت هي أن سجنهم في كوردستان يعني فرارهم بعد فترة. طبعاً كانت ناريمان بريئة في موقفها هذا نظراً إلى انتمائها لخانة الضحايا والمقتولين.

كريم الطبيب مثقف فرنكفوني متحمس للغة الفرنسية ضد زحف الإنجليزية، وقارئ نهم يملك مكتبة في بيته، يدافع عن القراءة وينتقد شيوع القراءة السطحية في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن مراجعه باموق الذي يتذكره عندما نظر إلى إسطنبول من نافذته في الفندق، هيبوليت تان، كيبلينغ، بول ريكور، روسو، البير كوهين، فولتير، بوماريشيه، وبعدما تحمس كريم  للثورة التي عمت ساحات بيروت ولبنان بعد تظاهرة 17 أكتوبر، وبات واحداً من روادها اليوميين، يتظاهر ويهتف ضد الفاسدين والسارقين  وضد الطبقة الحاكمة الظالمة، وشعر بصدمة عندما بدأت تظهر في التظاهرات أعمال عنف وتكسير وتهشيم للواجهات وأعمدة الإنارة والمحال التجارية.

بدأ كريم الثوري يخاف الأفظع لا سيما بعد سقوط أول شهيد من المتظاهرين السلميين، وبعد استفحال المواجهة وتخضبها بالدم عبر المواجهات مع الجيش وقوى الأمن. كان أمله كبيراً بأن الثورة ستحدث تغييراً في المجتمع اللبناني والنظام الفاسد، وتساعد اللبنانيين في الخروج من طائفيتهم وتعصبهم، وتمهد لقيام دولة علمانية يكون المواطن ركنها الأساس، لكن الأماني تختلف دوماً عما يؤول إليه الواقع.

كريم صاحب موقف نقدي من الظواهر السيئة والشاذة التي تهيمن على المجتمع والأفراد، ويمكن القول إنه كان ذا مسلك "أخلاقي" لا يسكت عن خطأ ولا يغض الطرف عن سوء، فحتى الخيانة الزوجية كان ضدها. كان ضد مظاهر الخداع والزيف والغطرسة التي وسمت من يسميه "أومو ليبانيكوس" أو "الإنسان اللبناني". ضد المرأة اللبنانية "المادية" التي لا يهما سوى مصلحتها ولو على حساب الحب. ضد البيدوفيلية حتى التطرف، لا سيما لدى الكهنة، لكنه كان متسامحاً مع المثليين ويعتبرهم ضحايا أخطاء جينية، كما أوضح مرة لناريمان، وهو الطبيب العالم، ولم يكن يضيره أن يكون لديه صديق مثلي اسمه وليد، يصادقه ويتألم لظروفه الصعبة في بلد يهين المثليين ولا يحترم حقوقهم بل ويتهمهم، وكم تألم لصديقه وليد عندما قال له والده بعد اكتشاف مثليته "ليتني لم ألدك".

في بعض الفصول تأخذ الرواية مسلك السيرة الذاتية غير المعلنة، فيسترجع الروائي بعضاً من أصدقائه (نديم الصحافي، طارق المصرفي)، كما يستعيد من خلال حواره مع ناريمان ذكريات الماضي العاطفي وكيف أحب فتاتين هما مايا التي كانت تدرس الصيدلة ومريم التي تهوى المال، وكيف آل الحبان إلى الفشل، والسبب الرئيس المال والمصلحة. مريام مثلاً تركته فجأة وتزوجت من مغترب في أميركا، أما ناريمان فعاشت حباً انتهى مأسوياً بعد مقتل حبيبها في حادثة سير، ثم حاول أهلها تزويجها من رجل آخر لا تكاد تعرفه فرفضته بإصرار.

اعتمد الروائي فن "التراسل" أو ما يسمى بالفرنسية "إيبيسولير"، ولكن في تقنيته الجديدة وهي "واتساب"، فروايات المراسلة المكتوبة كاد ينقضي زمنها وأضحت مراسلات العشاق وسواهم في الروايات الحديثة تنتمي إلى العالم الإلكتروني أو "الديجيتال"، مما أحدث ثورة في الرواية التراسلية. لم يعد العاشق يفيض في كتابة رسالة إلى المعشوق، منمقة ومطرزة وحافلة بالعواطف والأحاسيس. صارت الرسائل قصيرة وسريعة وبرقية تراعي إيقاع العصر الراهن.

رواية "ليس العالم بمثل هذا السوء" تقرأ بمتعة وألفة وحماسة، وقد تكون من الروايات النادرة جداً عربياً وعالمياً، التي تطرقت إلى قضية الإيزيديين وجدانياً وعاطفياً وإنسانيا، بعيداً من النزعة الأيديولوجية أو العقائدية، فهي أولاً وأخيراً قصة حب شائك في زمن الثورات والحروب والمآسي كما في زمن كورونا،  الوباء العالمي الذي أنهك وينهك العالم.