مصطفى فحص
لم تعد طهران في هاجس مواجهة أشباح محتملين قد يُحلقون في مجالها الجوي فقط، بل هي الآن في مواجهة شبه مفتوحة مع أشباح افتراضيين، يستهدفون منشآتها الحيوية والاستراتيجية، ولا تملك حتى الآن قدرة على الإيقاع بِهم أو إيقافهم.
حرب الأشباح التي انتقلت إلى الداخل الإيراني، كانت قد بدأت في سوريا منذ قرابة 4 سنوات، وزادت حدتها منذ مطلع هذا العام حيث تعرضت القواعد العسكرية وغرف العمليات التابعة للحرس الثوري لضربات جوية قاسية في سوريا والعراق، لم تعترف طهران بأغلبها، وإن اعترفت ببعضها، لكنها لم تعترف بحجم خسائرها.
إيران التي كانت تتجنب الاعتراف بالضربات على مواقعها بهدف تجنب الرد، باتت مُحرجة بعدما قام الطرف الذي يقف خلف هذه الأشباح بالكشف عن هويته، فما قام به الطيران الحربي الإسرائيلي منذ عدة أيام بالقرب من مطار دمشق باستهداف غرفة عمليات تابعة للحرس الثوري وقيام طائرات حربية أميركية بمحاولة اعتراض طائرة مدنية إيرانية متجهة من طهران إلى بيروت فوق الأجواء السورية ينذر بقرب مواجهة مباشرة بينها وبين واشنطن وتل أبيب قد يصعب تجنبها.
منذ أسابيع تعرضت طهران إلى أكثر من 14 هجوما في الداخل، كان أبرزها وأخطرها في مفاعل (نطنز) الذي اعترفت طهران أخيرا بوقوع هجوم داخله، والأخطر أنه جرى عبر عبوّة زُرعت داخل المنشأة، وهذا ما جاء على لسان عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني جواد كريمي قدوسي، الذي أعلن أن الانفجار في منشأة (نطنز) يعود إلى اختراق أمني وتخطٍّ للحواجز الأمنية، نافياً ما تردد سابقاً عن انفجار جسم مشبوه أصاب الموقع من خارج المنشأة. كما أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، عباس موسوي أن "عدة هجمات سيبرانية تعرضت لها البنية التحتية للبلاد خلال الأشهر الأخيرة".
بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي وقبله بسنوات تعمل طهران على تطوير دفاعاتها الجوية، من أجل حماية منشآتها الحيوية والاستراتيجية من تهديدات محتملة، ومنذ اغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني واقتراب موعد الانتخابات الأميركية، تصاعدت احتمالات تعرضها لهجوم عسكري تنفذه طائرات عسكرية "مجهولة" حربية أو مُسيرة، على الأغلب أميركية مزودة بتقنية قتالية عالية تشكل مصدر قلق لطهران في كيفية مواجهتها خصوصا إذا تم استخدام طائرة من نوع (إف 35) التي تملك قدرة على تجاوز الجيل الرابع من منظومة الدفاع الجوي الروسية إس إس، في حين ان ما تملكه طهران نسخة محلية متطورة للجيل الثاني من هذه المنظومة، وتعاني من تلكؤ موسكو في تسليمها كامل منظومة إس 300، حيث تحاول موسكو تجنيب شركاتها العسكرية مزيدا من العقوبات الأميركية التي تفرضها واشنطن بحجة رفضها رفع الحذر عن تزويد إيران بأسلحة تقليدية، كما أن شكوك طهران تتزايد في قدرة هذه المنظمة على مواجهة طائرات أميركية متطورة، فهذه المنظومة التي نشرتها موسكو في سوريا بعد دخولها منذ 5 سنوات لم تقم بالتصدي لأي جسم دخل الأجواء السورية.
انتقال المواجهة إلى هذا المستوى العسكري يُحرج طهران ويُضيق عليها خياراتها، فهي أمام معادلة صعبة تضعها بين الرد والرد على الرد، فيما هي عالقة في معضلة أشد صعوبة تجعل الرد بمستوى الانتحار وعدم الرد هزيمة، وفي الحالتين له ارتدادات داخلية وخارجية، خصوصا أن داخلها يعاني من حصار اقتصادي وضائقة معيشية نتيجة لعقوبات فُرضت على النظام بسبب سلوكه، وهو السلوك الذي يدفع ثمنه المواطن الإيراني من جيبه، أما خارجيا لم تعد طهران تمتلك قدرة كاملة على المناورة في سوريا حيث تخضع تحركاتها لحسابات الحضور الروسي غير المعني بحساباتها مع واشنطن وتل أبيب، كما أن صواريخها العشوائية في بغداد ضد مصالح واشنطن لم تأت بالنتيجة المرجوة، ومعها بات العراق ساحة محلية محدودية المكاسب بالنسبة لطهران أو لما يمكن أن تقدمه واشنطن.
وعلية فإنها للمرة الأولى منذ 41 سنة تتنقل المواجهة بين طهران وواشنطن من الوكلاء لتصبح مباشرة، فطهران التي أتقنت لعبة المراوغة مع أغلب من سكن البيت الأبيض، وممارسة سياسة حافة الهاوية لسنوات، ونجحت في اللعب على تناقضات داخل مؤسسات صنع القرار الأميركية ومقايضة الأمن والاستقرار بالسياسة والمصالح، فقدت مع إدارة ترامب كل أدواتها، وهي في مرحلة تواجه أشباح في الداخل وتضعف خياراتها مع إدارة تبدو غير مترددة في استخدام ما تملكه من أدوات لإجبارها على التنازل وهي لأول مرة تستخدم خيارات كانت تعتبرها طهران مستبعدة سياسيا وعسكريا.