ها هي أنجلينا جولي تعود من جديد. فبعدما أمضت عقداً من الزمن بعيداً من الأضواء، تلعب أيقونة هوليوود الثائرة دور البطولة في فيلم المغامرة "أولئك الذين يتمنون موتي" Those Who Wish Me Dead. إنها عودة مرحب بها – على الرغم من أنها ربما تكون خطوة مترددة إلى حد ما بالنسبة إلى جولي، إذ أدى "التغيير في وضع عائلتي" - كما قالت بلباقة ذات مرة في إشارة واضحة إلى انفصالها عن براد بيت - إلى اضطرارها إلى قضاء فترات أطول في المنزل برفقة عائلتها. وبسبب عدم قدرتها على التزام المشاريع الإخراجية التي تبنّتها خلال العقد الماضي وتستغرق وقتاً طويلاً، عادت جولي إلى الأدوار التمثيلية الأقل استنزافاً للوقت.
منذ أن أدت دورها الاستثنائي في فيلم "فتاة، مضطربة" Girl, Interrupted عام 1999، أثبتت أنها بارعة في التميّز وإعادة الابتكار، والخروج عن التيار السائد مع بقائها في صميمه. بدأت ابنة الممثلين - جون فويت الذي كانت تربطها به علاقة معقدة، ومارشلين برتراند التي تحمل إحدى بنات جولي اسمها، حياتها المهنية في سن السابعة. وقالت ذات مرة لمجلة "رولينغ ستون" إنها حين بدأت الخضوع لاختبارات الأداء في عمر المراهقة، وجد المخرجون سلوكها "سوداوياً للغاية". لكن هذا لم يقف عائقاً أمامها لفترة طويلة.
كانت جولي في الرابعة والعشرين عندما فازت بأوسكار أفضل ممثلة في دور مساند عن أدائها شخصية ليزا رو، المشوشة ورفيقة البطلة التي أدت دورها وينونا رايدر في فيلم "فتاة، مضطربة".
كان الدور انفعالياً وجريئاً ومعقداً - وبمثابة تلخيص مثالي للشخصية المهنية التي تبنّتها جولي في بداياتها. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن تتحول السوداوية إلى جزء أساسي يميّز أداءها. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت جولي في منتصف العشرينيات من عمرها وتزوجت من بيلي بوب ثورنتون، الذي كانت تعلّق دمه حول رقبتها في أنبوبة زجاجية (وكان هو يقوم بالمثل). كانت تربّي جرذاً يدعى هاري كحيوان أليف، وروت عنه الحكاية التالية لمجلة "رولينغ ستون": "ذات يوم، وجدني بيلي جالسة في حوض الاستحمام مرتدية ملابس النوم، ووضعت الجرذ في حضني وكنت أطعمه فطيرة اليقطين. كما ترون، هذا أحد التصرفات التي لن يعتبرها أي شخص لطيفة ما لم يكُن يحبني فعلاً". وأشارت إلى أن الجرذ كان "جرذاً صغيراً مدللاً في بيفرلي هيلز".
تُعدّ قصة الجرذ هاري مثالاً رائعاً على العزيمة التي كانت تمتلكها جولي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما كانت تتأرجح عند حافة الغرابة، بينما تقف بثبات في هوليوود. ربما كانت تعرف أيضاً الأمور الصادمة التي تفعلها السينما بالنساء الجميلات: فهي تحوّلهن إلى هدف للشهوات الجنسية الشاذة، بينما تحرمهن من إمكانية المشاركة في أدوار ذات عمق وترفض سماع ما يردن قوله.
لكن كانت هذه بداية نمو جولي. عام 2001، ظهرت للمرة الأولى في دور "لارا كروفت"، عالمة الآثار المغامرة وبطلة امتياز سلسلة أفلام "تومب ريدر" Tomb Raider. كان الدور فرصة مثالية لجولي للاحتفاظ بأدائها الانفعالي بينما تنتقل إلى عالم الأفلام الرائجة الأكثر سهولة وصخباً.
كما غرس الدور بذور مستقبل جولي كممثلة أفلام الحركة. أحد الشروح التي نشرتها مجلة "ويكلي إنترتيمنت" بالتزامن مع إصدار فيلم "لارا كروفت: تومب ريدر" Lara Croft: Tomb Raider عام 2001، ألقى الضوء على شجاعتها في موقع التصوير. قال المخرج سيمون ويست إن جولي "ليس لديها شعور بالخوف أبداً، لذلك قضيت بعض الوقت في محاولة إقناعها بارتداء حزام الأمان. كان علي أن أقول لا، لا يمكنك القفز مسافة 100 قدم عبر الغرفة، لأنك لست لارا كروفت وعندما تصطدمين بالأرض لن تتمكّني من النهوض". أصيبت جولي بتمزّق في أربطة كاحلها أثناء التصوير، لكنها قالت عن تجربتها: "الأمر أشبه بأن تكون ملاكماً. إنه جزء من العمل".
أعادت جولي لعب الدور في جزء التكملة "لارا كروفت: تومب ريدر - مهد الحياة" Lara Croft: Tomb Raider – The Cradle of Life الصادر عام 2003. في هذه الأثناء، واصلت تجاربها كممثلة - ولاقت نجاحاً مختلطاً، إذ لم ينجح فيلم الإثارة الحسي "خطيئة أساسية" Original Sin الذي شارك في بطولته أنطونيو بانديراس عام 2001، لكن الناقد روجر إيبرت أشاد بأدائها، مشيراً إلى أن "هناك مبالغة في الحوار في هذا الفيلم، لدرجة لا يستطيع المرء النطق به حرفياً، لكنها بقيت صامدة من خلال الصمت بطريقة مزدرية ثم البوح به دفعة واحدة". أما فيلم الكوميديا الرومانسي "الحياة أو شيء ما يشبهها" Life or Something Like It الصادر عام 2002، وهو حكاية كوميدية رومانسية عادية لعبت فيها دور مراسلة تلفزيونية تعاني من حيرة وجودية، كان مصطنعاً جداً بالنسبة إلى جولي، إذ جرّدها من جرأتها كبطلة أفلام الحركة قيد التشكيل ليقولبها في الدور النمطي للمرأة غير المحظوظة في الحب. انتقدت صحيفة "نيويورك تايمز" الفيلم باعتباره "محاولة كوميدية مكررة، باهتة ومبتذلة".
كانت الأمور صعبة، لكن جولي استمرت في العمل. وعام 2005 جاء فيلم "السيد والسيدة سميث" Mr and Mrs Smith - وحمل معه بداية حقبة جديدة لجولي.
يمثّل الفيلم الذي تقاسمت جولي بطولته مع براد بيت، بداية قصة حب حقيقية بين البطلين - وفي الوقت ذاته، طلاق بيت من جينيفر أنيستون. قبل الانفصال، كان بيت وأنيستون أحد الثنائيات الذهبية في هوليوود. ودخلت أخبار انفصالهما التاريخ من صحافة التابلويد. خاض بيت وأنيستون حرباً ضد بعضهما البعض. وصلت الأمور إلى ذروتها في أوساط المشاهير عندما التُقطت صور لباريس ونيكي هيلتون وهما ترتديان قميصي فريقين متنافسين طُبع عليهما "فريق أنيستون" و"فريق جولي" (فكانت نيكي من أنصار أنيستون وباريس من أنصار جولي).
كان كل هذا بالطبع غير ضروري، إذ تطلّق الزوجان. ومهما كانت المشاعر التي تكنّها جولي وأنيستون لبعضهما البعض فقد كانت ولا تزال مشكلتهما. لكن هذه الفترة المضطربة ولّدت مثالاً رائعاً لثقافة العلاقات العامة، فحاولت جولي - وتمكّنت إلى حد ما - من استعادة السيطرة على الحكاية التي يتم تداولها.
في يوليو (تموز) عام 2005 ، نشرت مجلة "دبليو" مجموعة من الصور تحت عنوان: "النعيم الأسري: أنجلينا جولي وبراد بيت في المنزل". ويظهر بيت وجولي في الصور التي نُشرت بعد أشهر من انفصال بيت وأنيستون، تماماً مثل زوجين أميركيين مثاليين، محاطَين بمجموعة من الأطفال الخياليين (كان لدى جولي بالفعل ابن هو مادوكس وكانت تستكمل إجراءات تبنّي ابنتها زهارا من إثيوبيا، لكن لا يظهر أي من الطفلين في الصور).
أظهرت بعض الصور "النعيم الأسري" بطريقة مباشرة - براد وأنجي على مائدة العشاء، براد وأنجي في الحديقة مع أطفالهما المزيفين، براد وأنجي يقرآن في السرير. لكن بعضها الآخر تجاوز كل الحدود - بيت ينحني فوق جولي، بيت يمسك بمعصمي جولي، بيت يحيط وجه جولي بكفَّيه بينما تستلقي على سرير. في الوقت الذي انتشرت الصور، لم يكن الثنائي أكد بشكل رسمي أنهما مرتبطان عاطفياً - وبدت الصور التي كانت مزيجاً غريباً من الحقيقة والخيال وكأنها تسخر من الشائعات وتؤكدها في آن معاً.
بالتوازي مع مسيرتها المهنية في هوليوود، طوّرت جولي نفسها كناشطة في مجال الأعمال الإنسانية، وبدأت عملها مع وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عام 2001. وتجاوزت مشاركتها حدود التقاط الصور: انضمت إلى أكثر من 30 مهمة ميدانية كسفيرة للنوايا الحسنة للمنظمة بين عامي 2001 و2011، وعام 2012 أصبحت مبعوثة خاصة.
إضافة إلى هذا العمل، واصلت جولي التمثيل. أخرجها دورها في فيلم "استبدال" Changeling عام 2008 من عالم أفلام الحركة المبالغ فيه وسمح لها بالتألق في شخصية الأم الغاضبة والمعذبة بسبب ضياع ابنها. أظهر الفيلم قدرات جولي كممثلة، إذ ألقى بجزء كبير من التوتر العاطفي والنفسي فيه على عاتق جولي التي أتمت تلك المهمة بنجاح. أدى عملها إلى ترشيحها لجائزة الأوسكار للمرة الثانية.
عادت جولي إلى أفلام المغامرة عام 2010 عندما لعبت دور البطولة في فيلم الإثارة "سولت" Salt للمخرج فيليب نويس، وهو عمل يتناول بطريقة غير تقليدية حبكة قصص المغامرة الناجحة والمرغوبة: يُكشف عن أن عميلة لدى وكالة الاستخبارات المركزية كانت جاسوسة روسية - أم أنها كانت كذلك؟ تقمّصت جولي تماماً الدور الذي كتب في الأصل ليؤديه رجل. بدت مرتاحة جداً وسط أجواء الفيلم الصاخبة، مقدّمة أكثر لحظات المغامرة إثارة واللمسات العاطفية المؤثرة عندما تستدعي الحاجة.
كتبت صحيفة "لوس أنجلس تايمز": "مع ما تفعله جولي هنا، إضافة إلى فيلم لارا كروفت: تومب ريدر [الذي أخرجه تيمور بيكمامبيتوف 2008] ومطلوب والسيد والسيدة سميث، تستحق جولي ألا ينظر إليها كنجمة أفلام مغامرة أنثى قوية بل كنجمة أفلام المغامرة القوية، من دون جدل".
دائماً وأبداً كان هناك نوع من السرية والغموض في أسلوب جولي في التعامل مع الشهرة، إذ أبقت الممثلة مسافة معينة بينها والجمهور. ليست لديها حسابات معروفة على مواقع التواصل الاجتماعي ونادراً ما تجري مقابلات. والنتيجة، بالطبع، هي أنه عندما تقرر الخروج عن صمتها، فإننا نستمع إليها.
ابتعدت قليلاً عن الأضواء في منتصف العقد الثاني من الألفية، عندما حوّلت اهتماماتها إلى العمل في الإخراج، وأدوار الدوبلاج والمشاركة في جزءي فيلم "ماليفيسنت" Maleficent. وبحسب ما ذكرته مجلة "فانيتي فير" عام 2011، فإن هذا التحول بدأ مع "مشروع سرّي" كانت تسعى جولي إلى تحقيقه "كل مساء، بعدما يؤوي الأطفال إلى الفراش، وتنهي المربيات عملهن ويذهب براد إلى حيث يذهب نجوم السينما عندما يغمض العالم عينيه".
وروت المجلة: "بعدما يعمّ الهدوء في المنزل، تقوم أنجلينا جولي بتشغيل جهاز الكمبيوتر الخاص بها وتهمّ في العمل، بتردّد في البداية، ثم باندفاع... لقد صبّت كل معارفها في القصة، لوعة الحب الأول، الشوارع المتعرجة في المدن الأوروبية القديمة، أهوال الحرب، بعضها ما شهدته شخصياً أثناء عملها مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. في غضون شهر، أكملت السيناريو الأول الخاص بها [الذي سيتحول في النهاية إلى أول تجربة إخراجية لها مع فيلم في أرض الدم والعسل]".
تتناسب هذه الخطوة مع الوتيرة التي اتخذتها جولي في تحدي التوقعات، والبقاء بعيدة من المسار التقليدي. وبدا عملها كمخرجة مرادفاً منطقياً لنشاطها في الأعمال الإنسانية، فسمح لها بتعزيز مشاركتها السياسية. في فيلم "في أرض الدم والعسل" In the Land of Blood and Honey، وهو أول إصدار تجاري لها كمخرجة، صوّرت قصة حب تتكشّف فصولها خلال حرب البوسنة. أما فيلم "غير مهزوم" Unbroken عام 2014، فاستند إلى كتاب واقعي للمؤلفة لورا هيلنبراند عن تجربة أحد قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية بعد نجاته من حادث تحطم طائرة، وبقائه في البحر لمدة 47 يوماً، واحتجازه كأسير حرب في اليابان.
فيلم "أولاً، قتلوا أبي" First They Killed My Father الصادر عام 2017، الذي يستند إلى مذكرات لونغ أونغ التي تحمل العنوان ذاته، يتناول الفظائع التي ارتكبها نظام الخمير الحمر في كمبوديا. وشارك مادوكس جولي بيت - ابن جولي المولود في كمبوديا والدته العمل كمنتج تنفيذي، وقالت جولي إنها ناقشت الفيلم لأعوام عدة مع مادوكس قبل أن يشعر بأنه مستعد للمشاركة.
في حين قد تكون هناك رغبة بالفصل بين أنجلينا جولي، الممثلة الهوليوودية وأنجلينا جولي، المخرجة المجتهدة، فإن هذين الجانبين هما وجهان لعملة واحدة بالنسبة إليها.
في يونيو (حزيران) من عام 2020، قالت للنسخة الهندية من مجلة "فوغ": "حياتي كفنانة تدور حول التواصل والفن... في بعض الأحيان، يكون التركيز أكثر على الترفيه، لكن أخيراً وخلال عملي كمخرجة، كان الأمر متعلقاً إلى حد كبير بالقضايا العالمية التي أركّز عليها . فيلم أولاً، قتلوا أبي هو العمل الذي يجمع بين كل تلك العوالم. لكنه في جوهره قصة الأعوام الصعبة التي مرّ بها بلد ابني. لذا فإن أمومتي تؤثر أيضاً في عملي. وكلا، أنا لا أرى فصلاً بينهما".
الآن تعود جولي إلى جذورها التمثيلية مع فيلم "أولئك الذين يتمنون موتي". ستتبع هذا الدور تجربة على مستوى أشهر عندما تنضم جولي إلى عالم مارفل السينمائي في شخصية تينا في فيلم "أبديون" Eternals الذي سيصدر في أواخر العام الحالي وهو من إخراج كلوي جاو الحائزة على أوسكار أفضل إخراج في سباق هذا العام. بغض النظر عن شعوركم بأفلام الأبطال الخارقين، من المستحيل ألا تنسحروا بما سيحمله الدور الذي يجمع بين تجربة جولي في الأفلام الرائجة ومهاراتها كبطلة أفلام مغامرة، إضافة إلى إخراج جاو المبهر.
تُعدّ عودة جولي إلى الشاشة الفضية أخباراً رائعة بالنسبة إلى هوليوود. ولو تعلّمنا شيئاً واحداً فقط خلال عقدين من الزمن من التحول والتجديد، فهو أن هوليوود مملّة كثيراً من دون جولي.