وليد فارس الأمين
في ظل التجاذب بين إيران والولايات المتحدة بشأن مفاوضات طريق العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وإذ تتعقد الأمور على الأرض في الشرق الأوسط بين ميليشيات طهران ومختلف المقاومات الوطنية ضد "الإمبراطورية الخمينية"، يرتفع سؤال استراتيجي بين المنطقة والسياسة الأميركية وهو التالي، ماذا يريد النظام الإيراني أن يحقق في الداخل وفي المنطقة عبر إدارة بايدن حتى انتهاء ولايتها في خريف 2024؟ أي بكلام آخر ماذا تسعى القيادة الإيرانية إلى تحقيقه على جميع الصعد السياسية والدبلوماسية والمالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، خلال الثلاثة سنوات والنصف المقبلة، مستخدمة القرار الأميركي بإعادة علاقات ما مع طهران عبر مفاوضات فيينا.
الاستراتيجية الإيرانية في فترة بايدن تشبه إلى حد بعيد استراتيجية الملالي إبان رئاسة أوباما. فهي تعتمد على معادلة بسيطة، فطالما واشنطن هادفة إلى تحقيق الاتفاق النووي، طالما لن تضرب طهران ستستفيد الأخيرة من هذه المعادلة لتحقيق كل أهدافها غير النووية، وهي تعد بالالتزام بالاتفاق وتناور به، لتكسب أطول وقت ممكن.
هذا ما رأيناه في فترة أوباما وحتى في أول سنتين لترمب، إذ إن البيروقراطية الأميركية تستمر في أدائها بغض النظر عن تغيير الإدارات، حتى تغيير السياسات، مثل الانسحاب من الاتفاق النووي تحت إدارة الأخير. وإذا سلمنا جدلاً بأن سياسة بايدن تهدف فعلاً إلى العودة الى الاتفاق، بغض النظر عن التكتيكات الدبلوماسية، ماذا سيحاول النظام الإيراني أن ينفذه حتى عام 2024 ما لم تجرِ أحداث غير منتظرة. بمعنى أي أهداف تحققت أم لا؟
المال
النظام الإيراني تحت ضغط مالي كبير، أولا لإشباع إداراته، وميليشياته وكيانات محوره في المنطقة، إضافة إلى لوبياته في الخارج. وقد شكلت العقوبات الأميركية مقصاً قضى على مداخيل عدة كان النظام يستفيد منها لعقود لتوفير الأموال والموازنات للماكينة الحاكمة "للإمبراطورية"، لذا فالحاجة الأولى لطهران في الأشهر والسنوات المقبلة هي السيولة، لذا فأولوية التركيز الإيراني ستكون على الطلب من إدارة بايدن من أن تحرر كل المبالغ الممكن تحريرها في كل دول العالم وتحويلها إلى طهران قبل إعادة التوقيع، وبعده. ويعتقد أركان النظام ارتكازاً على تقويم اللوبي الإيراني في واشنطن، أن الادارة ستفتح الحنفيات الخفيفة من دول ثالثة حتى التوقيع النهائي، كي لا تُحدث خضات سياسية مع معارضة الاتفاق في الداخل الأميركي، وبعد ذلك سترفع العقوبات الاقتصادية لإعادة الحياة لعروق الاقتصاد الإيراني، تمهيداً لتطبيع كامل، بشرط أن تتقدم طهران على محورها، وتقدم "تنازلات مرئية" من قبل الرأي العام الأميركي.
التسلح
السؤال هو ماذا ستفعل إيران بهذه السيولة؟ أولاً لن يكون هنالك ضبط دولي أو أميركي لإدارة صرف الموازنات الإيرانية التي ستهدر على صناديقها، وبالتالي ستتبضع إيران ما تريده من الأسلحة من صواريخ وطائرات ورادارات وزوارق وغواصات وأجهزة إلكترونية متقدمة في إطار خارج عن الاتفاق النووي.
حسابات القيادة الإيرانية أن إدارة بايدن قد تنتقد التسليح، ولكنها لن تقطع الخيط مع آلية الاتفاق، وهذا يعني أن الجمهورية الإسلامية ستطور قدراتها العسكرية بشكل واسع من دون ردع، فالمعادلة التي تعتمد عليها طهران هي تعلق الإدارة بالاتفاق إلى حد لن تنسحب واشنطن من الـ "JCPOA" بسبب تسلح إيران، وهي حال شبيهة تاريخياً برفض الحلفاء أن يعاقبوا ألمانيا النازية في نهاية الثلاثينيات عندما قررت إعادة تسليح نفسها على الرغم من معاهدات سابقة.
هدف التسلح الاستراتيجي الإيراني في الاستفادة من التزام إدارة بايدن بالاتفاقية هو الوصول إلى حالة ردع حربي لخصوم النظام، فإذا جهزت طهران نفسها بسلاح نوعي ومدمر، ستصل إلى حال "الردع الدائم" لخصومها إقليميا ودولياً، مما يحمي مؤسسة الحكم في طهران من تهديدات خارجية قد ترتبط مع "أعداء الداخل"، أي المعارضة. الخلاصة أن إيران تريد أن تستفيد من مال الاتفاق لتسلح نفسها إلى حد الردع، أي الحالة التي تمكن النظام من أن يحمي نفسه من تدخل خارجي عسكري. أي أن تحول ثمن مغامرة ضد إيران مكلفة إلى حد غير مقبول. طهران تبغي أن تصل إلى حال كوريا الشمالية، أو ربما إلى حال الصين في قدرتها الرادعة.
الاعتراف الدولي
العقوبات الأميركية أسهمت في عزل إيران دبلوماسياً إلى حد ما، مع حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما عبر المصارف والمؤسسات الاقتصادية والمالية، إما بعودة واشنطن إلى الاتفاق أو حتى إلى المفاوضات، فإن عزلة كهذه ستبدأ بالتفكك. إيران وفي عز العقوبات كان لها أبواب خلفية إلى روسيا والصين، وشبكة مصالح مع فعاليات أوروبية، إما مع تسوية الأوضاع مع الإدارة الأميركية، فإن ذلك سيسقط العزل والانعزال دولياً، ويتم إعادة تأهيل "الدولة الإيرانية" كدولة طبيعية في المنطقة والمؤسسات الدولية. بالطبع سيعطي ذلك دفعاً دوليا لطهران "الجديدة في المجتمع الدولي، بمساعدة الولايات المتحدة.
حقوق الإنسان
استراتيجية أخرى سيستعملها النظام الإيراني بالاستفادة من العودة الأميركية إلى الاتفاق هي ربط التدخل الخارجي في ملف حقوق الإنسان داخل البلاد، باستمرارية "فوائد" الـ "JCPOA"، فطهران ستهدد بفك الارتباط بالاتفاق والعودة إلى التخصيب إذا صعدت واشنطن من ضغطها على النظام بسبب قمع المجتمع المدني والأقليات داخل إيران. فيتحول النضال الديمقراطي داخل هذه الدولة رهينة للاستثمار الغربي في إيران. وتتوقع القيادة الخمينية من أن تعبر واشنطن عن "قلقها" من خروقات حقوق الإنسان، ولكنها لن تأخذ إجراءات جذرية بما قد يهدد الاتفاق.
حتى 2024
القراءة الإيرانية المحتملة هي أن إدارة بايدن "منغمسة" بشكل في إعادة الارتباط مع الاتفاق النووي، سيسمح لطهران بأن تعبر جسراً استراتيجياً آمناً حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024، من دون عمل أميركي حاسم ضدها أو ضد حلفائها، ولعل توجه إدارة بايدن لوقف الحملة في اليمن، والضغط على إسرائيل بتخفيف المواجهة العسكرية مع إيران، قد تمت قراءتها عند الحرس الثوري بأنها بداية الغيث، وأن واشنطن ستقف في موقع المتفرج على الأداء الإيراني، إلا أن حسابات البيدر قد تتعقد عندما يتم ربط ملف الاتفاق مع ملفات الدول التي تسيطر عليها إيران كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، بينما تعتقد طهران أنها قادرة على فرض إرادتها على الولايات المتحدة في هذه الدول، بسبب الاتفاق. ربما قد تنجح وربما لا. هذا ما سنناقشه في المقالة المقبلة.