سالم الكتبي
عادت الأنباء حول صفقة إحياء الإتفاق النووي الإيراني إلى الأضواء مجدداً إثر نفي وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن، مؤخراً، التقارير التي تفيد بأن واشنطن وطهران اقتربتا من إبرام صفقة بشأن البرنامج النووي الإيراني والافراج عن مواطنين أميركيين معتقلين في إيران. التساؤلات جاءت على خلفية إعلان إيران بأنها تجري مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة عبر سلطنة عمان، وأن القضايا النووية والعقوبات الأمريكية والمحتجزين على أجندة المفاوضات.
الشواهد عديدة على أن هناك محاولات تجري وراء الكواليس لبلورة إتفاق بين واشنطن وطهران، ويذكرنا الموقف الحالي بموقف إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما حين توصلت بشكل مفاجىء للاتفاق المسمى بـ"خطة العمل المشتركة" عام 2015 قبل عام من الإنتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها الرئيس السابق دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ويبدو أن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن تراهن كذلك على إحداث إختراق نوعي في هذا الملف قبيل الإنتخابات الرئاسية المرتقبة في العام المقبل 2024، لتقديمه للرأي العام الأميركي كإنجاز على صعيد السياسة الخارجية، ولاسيما أن الأمر لا يتعلق بالملف النووي فقط، بل بالإفراج عن أربعة من الأميركيين المحتجزين في إيران، وهو الملف الذي تعتبره الإدارة الحالية بأنه "أولوية قصوى".
مبدئياً، فإن الأنباء حول حوار مباشر أو غير مباشر بين طهران وواشنطن مسألة لا يمكن إستبعادها في ظل تكرار واشنطن تأكيدها بأنها "ملتزمة" باستخدام الدبلوماسية لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، والالتزام هنا يعني في أحد جوانبه مواصلة البحث عن خيارات سياسية للتعامل مع هذا الملف، لاسيما بعد أن ثبت للجانب الأميركي أن النظام الإيراني قد إستطاع تهدئة الإحتجاجات الشعبية التي شهدتها إيران نهاية الماضي. وما يضاعف الإصرار الأميركي على البحث عن مخرج للمأزق الخاص بالإتفاق النووي الإيراني هو القلق المتزايد من تورط الحليف الاسرائيلي في حرب مع إيران، حيث تريد واشنطن انتزاع ورقة الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية التي تلوح بها حكومة نتنياهو تحديداً من آن لآخر.
ورغم إعلان الحكومة الإسرائيلية الحالية أنها "غير معنية" بأي إتفاق يتم التوصل إليه بشأن إحياء الإتفاق النووي الإيراني، فإن الولايات المتحدة تدرك أن هذه التصريحات تبدو غير واقعية وأقرب للتسويق السياسي منها إلى التنفيذ الفعلي، لأن الحليف الإسرائيلي يدرك جيداً أنه لابد من الحصول على ضوء أخضر أميركي قبل توجيه أي ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، ومايؤكد ذلك أن هناك تصريحات أميركية متكررة تؤكد أن واشنطن تُطلع الجانب الإسرائيلي بشكل متواصل على مضمون أي محادثات أو حوارات تتعلق بالملف النووي الإيراني، وأن هناك تنسيق وثيق بين الجانبين حول هذا الموضوع.
ثمة شاهد مهم على أن إجراءات بناء الثقة بين طهران وواشنطن تمضي بهدوء وراء الكواليس، ويتمثل في موافقة الولايات المتحدة على تحويل نحو 2.7 مليار دولار من العراق إلى إيران، وهي خطوة وصفتها الخارجية الأميركية بأنها إجراء معتاد، ولكن الحاصل أن الإجراء يتم عادة بموافقة أميركية مسبقة ويعكس توجهاً أميركياً لتهيئة الأجواء لإنجاح الحوار مع إيران، وأن هذه الإشارة ليست الأولى من نوعها، حيث يمكن إعتبار الصمت الأميركي على إنتهاكات إيران المتكررة في الخليج بمنزلة إشارات أميركية متكررة على الرغبة في تفادي الصدام ولو على حساب المجازفة بعلاقات الشراكة مع الحلفاء الإقليميين.
أحد دوافع الولايات المتحدة للمضي في البحث عن أرضية إتفاق مع إيران بغض النظر عن أي حسابات أخرى، يتمثل في رغبة واشنطن في إستمرار التركيز على الصراعات الدولية التي تحتل أولوية قصوى على أجندة الإهتمام الأميركية، وتحديداً الصراع الدائر مع روسيا في أوكرانيا، والتنافس المحتدم مع الصين، وكلاهما ملفان مترابطان، ولا تريد الولايات المتحدة الإنشغال حالياً بما يحدث في الشرق الأوسط، وتكتفي بإثبات الوجود في هذه المنطقة، ولو من خلال التصريحات والتأكيدات الشفهية المتكررة.
قناعتي أن هدف الولايات المتحدة الأكثر إلحاحاً الآن هو تأجيل حصول إيران على كميات أكبر من اليورانيوم المخصب، اللازم لصناعة قنبلة نووية، بغض النظر عن الصيغة المفاهيمية أو الإجرائية، التي يمكن أن يتم من خلالها ذلك، وهل سيكون من خلال إتفاق أو تفاهمات أو أي إطار رسمي بديل، وصولاً إلى محاولة إقناع إيران بالتوقف عن دعم روسيا في حرب أوكرانيا، وهو هدف يبدو صعب التحقق، ولكن يمكن التوصل إليه في إطار معادلة "رابح ـ رابح" تضمن لإيران رفع العقوبات والإفراج عن أرصدتها المالية بالتدريج مقابل الإلتزام بتحقيق المطالب الأمريكية.
أضف إلى ماسبق، أن الإدارة الأميركية لا تريد الحديث عن مساع لتوقيع "إتفاق" مع إيران كونها تريد تفادي عرض الموضوع على الكونجرس للمراجعة، وهو مادفع مايكل ماكول (جمهوري)، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي، لمطالبة الرئيس جو بايدن رسمياً بعرض أي ترتيب أو تفاهم مع إيران، حتى وإن كان غير رسمي على الكونغرس، وهو مطلب يمكن للبيت الأبيض تجاهله ولو بتصويت من داخل المجلس نفسه، الذي يسيطر عليه الديمقراطيون.
بلاشك أن توصل الولايات المتحدة لأي تفاهمات مع الجانب الإيراني تعني أن الخاسر الأكبر إقليمياً قد يكون إسرائيل، بعد أن استبقت دول مجلس التعاون أي تحرك أميركي بتهدئة التوترات القائمة مع إيران واستئناف العلاقات معها، وبالتالي فإن بقاء الوضع الجيواستراتيجي الراهن إقليمياً كما هو باستمرار التواجد الإيراني في سوريا، ومواصلة إيران تطوير قدراتها الصاروخية، وعدم حلحلة ملف "حزب الله" اللبناني وأسلحته المهددة لإسرائيل، يعني أن شعور الأخيرة بالتهديدات المرتبطة بإيران ستبقى قائمة ما لم يتضمن أي تفاهم أميريكي ـ إيراني محتمل ضوابط دقيقة ومحددة، تضمن تبريد الأجواء بين إسرائيل وإيران على الأقل في نقاط التماس المباشرة على الحدود الإسرائيلية مع سوريا ولبنان وأن تكف طهران عن دعم التنظيمات المتطرفة التي تستهدف أمن إسرائيل واستقرارها.