رفتن به محتوای اصلی

"حوارات" فيلسوف التنوير الفرنسي تشفيه من رهابه الخطير

تمثال جان جاك روسو، أمام مقبرة العظماء (بانتيون) باريس
الصورة : كارزان حميد - شبكة (AVA Today) الأخبارية
يوضح الكاتب بعد ذلك أن تلك القسمة سوف تساعده على كتابة نص جدليّ يتمايز فيه روسو الحقيقي عن ذاك المزيف الذي "فبركه خصومي للنيل مني وتشويه سمعتي"
posted onJune 19, 2021
noدیدگاه

خلال السنوات الأخيرة من حياته التي تلت عودته من إقامته في منفاه اللندني، كان من الواضح أن جان جاك روسو، وفيما كان منكبّاً على تدبيج واحد من كتبه الكبرى وواحد من الكتب الأساسية في تاريخ كتابة الذات، "الاعترافات"، كان يعاني نوعاً من رهاب (بارانويا) يجعله يعتقد جازماً أنه ضحية مؤامرة كونية يحيكها من حوله الفرنسي ديدرو، والألماني غريم، والبريطاني هيوم بالتوافق فيما بينهم وبمؤازرة عدد كبير من "أصدقائه" ومعارفه، بل حتى بمؤازرة الناس أجمعين. وكان الإحساس بالمؤامرة الكونية ضده يكبر ويكبر كل يوم لديه إلى درجة أن المسألة باتت مرضية. وهو لئن كان قد جعل لـ"الاعترافات" ملحقاً كتبه بعد إنجازها مباشرة، فإن الغريب في الأمر أن ذلك "الملحق" كان هو بالتحديد ما شفاه من رهابه وأراحه ليعود إلى عيشه الهنيء المطمئن، منتظراً رحيله عن هذا العالم وهو عارف أن ليس أمامه سوى سنوات قليلة يعيشها. "فلأعشها بهدوء وهناء طالما أنني فرّغت ما عندي، وأسكتّ أصحاب المؤامرة!"، كان لسان حاله يقول. وبالفعل عاش روسو السنوات الأخيرة من حياته في هدوء يعكسه ذلك الكتاب الأخير الذي وضعه حينها وهو طبعاً "أحلام يقظة متنزّه وحيد". وشتان طبعاً بين هذا الكتاب الرواقي الأنيق و"الملحق" الذي نحن في صدده ونتحدث عنه هنا.

الكاتب يحاكم ذاته

يحمل الملحق عنوانين هما "الحوارات" أو "روسو يحاكم جان جاك" وهو، كحال كتابه الأكبر "الاعترافات"، من كتب فيلسوف التنوير التي لم تنشر إلا بعد رحيله عام 1778. بيد أن لهذا الكتاب قصة لا بد من أن نرويها. ففي عام 1771 كان روسو قد انخرط في مجموعة من جلسات القراءة العلنية لصفحات من "الاعترافات"، ولكن رئيس الشرطة الباريسية المدعو سارتين لم يستوعب شيئاً من المشروع فقرر بينه وبين نفسه أن المسألة خطيرة وأصدر أوامره بمنع تلك الجلسات. ومن هنا ولكيلا يخوض روسو معركة يعرف أنها خاسرة استبدل بالجلسات كتابة تلك الحوارات التي رمى فيها إلى أن يقول "كل شيء" بل خصوصاً أن يرد على تلك الأقلام التي من دون أن تقرأ الاعترافات راحت تهاجمها. فآثر روسو أن "يهاجم نفسه بنفسه" بطريقة ماكرة وساخرة عبر حوارات جعلها تدور بين جانبيه الذاتيين: جان جاك من ناحية وروسو من ناحية أخرى، وبأسلوب ذي طابع سيكولوجي غاية في العمق، لكنه أتى في الوقت نفسه "ذا فصاحة قضائية" واضحة كأننا في محكمة حقيقية.

الموازنة بين المع والضد

قدم الكاتب موضوعه بتمهيد فسّر فيه سبب لجوئه إلى أسلوب الحوار قائلاً إن هذا الأسلوب "بدا لي الأكثر ملاءمة كي أزن المع والضد في موقفي وموقف خصومي بطريقة موضوعية"، مفسراً إثر ذلك أنه سوف يتمثل في الحوارات بشخصين يتبناهما معاً، أحدهما هو الذي سيقدم تحت اسمه العائلي، روسو، والثاني يعرّف باسمه العلم المعروف، ويمثل هنا الرأي العام على أن تكون ثمة شخصية ثالثة تقدّم باسم "الفرنسي" يمثل صاحبها "دور الحكم بين الأولين". ويوضح الكاتب بعد ذلك أن تلك القسمة سوف تساعده على كتابة نص جدليّ يتمايز فيه روسو الحقيقي عن ذاك المزيف الذي "فبركه خصومي للنيل مني وتشويه سمعتي"، ولعل في هذه الإشارة العابرة في التمهيد ما يضعنا مباشرة في صلب نظرية المؤامرة التي كان روسو يتبناها ويريد أن يتصدى لها في هذه الحوارات.

عبقرية زمن الجنون

هذه الحوارات، وهي ثلاثة تتفاوت طولاً، توصف عادة بأنها "حوارات عبقرية"، ولا سيما أنها تكشف بشكل فريد من نوعه وخلاق عن الجنون الذي كان يعتمل في عقل روسو خلال تلك السنوات، ما يجعلها في هذا المعنى تحديداً "أكثر غنى وأكثر كشفاً وأكثر أصالة، وفي جميع الأحوال أكثر غرابة من مئات الصفحات التي تتألف منها الاعترافات"... وهي ترينا كيف أن تلك السنوات كانت سنوات الجنون الأقصى في حياة روسو وسلوكه، حيث إن كل من كان يقترب منه كان مشبوهاً بالنسبة إليه. كان روسو لا يشعر بالأمان حتى ولا في الطريق حيث يتنزه. لكنه ما إن انتهى من صياغة الحوارات حتى هدأ، شاعراً أنه برّر نفسه وبرّأ تاريخه وأدى قسطه إلى العلا دون أن يهتم حتى بأن ينشر النصين. المهم بالنسبة إليه كان أن يكتبهما وبلغة أدبية رائعة ولا سيما فيما يتعلق بمجرى الحوارات وجدليتها.

من حوار إلى آخر

في الحوار الأول لدينا الشخصية الرئيسة روسو وهو مثقف سويسري له باع في الشؤون الحقوقية وهو من المعجبين بأفكار ج.ج. (جان جاك) دون أن يكون قد التقاه شخصياً. وروسو يتحاور هنا مع "الفرنسي" الذي ينقل إليه كل الافتراءات التي تطاول ج.ج. دون أن يكون هو قد قرأه. وخلال الحوار بين روسو و"الفرنسي" يقتنع هذا الأخير بأن عليه ألا يحكم على ج.ج. إلا بعد أن يقرأ كتاباته فيوافق على ذلك. هكذا يعرض الكاتب في هذا الحوار الأول كل تفاصيل القضية والأكاذيب التي تقال عادة في حق جان جاك روسو الحقيقي، التي سيشكك روسو المحاور فيها جميعاً، راداً نقطة نقطة عليها وبشكل يقنع "الفرنسي" إنما اقتناع مشروط بقراءة هذا الأخير أعمال الكاتب موضع النقاش. وبعد شهور يعود روسو ليلتقي "الفرنسي" الذي لا تزال لديه شكوك حول صدقية الكتابات المدينة، ومن هنا يطالب روسو بأن يمعن في التفسير وإن بشكل مفصل لأنه يريد من اقتناعه أن يكون نهائياً ولا يترك لديه أي قبس من شك. وعلى هذا النحو ينطلق روسو في شرح وتفسير كتابات جان جاك روسو الحقيقية باعتبارها هنا كتابات ج.ج. مقدماً ما يمكن اعتباره أفضل تحليل علمي وأخلاقي حتى للشخصية المتنازع عليها. وهذه المرة نراه لا يترك ثغرة يمكن لـ"الفرنسي" أن ينفذ منها ليواصل الدفاع عن الآراء التي كان نقلها عن الآخرين فيما يخص ج.ج.

"الفرنسي" يقتنع

وهذا ما ينقلنا إلى الحوار الثالث والأخير، الذي ينطلق من قول "الفرنسي" إذ يلتقي روسو مرة ثالثة، بأنه في حقيقة أمره لم يكن على اقتناع تام بالآراء التي نقلها عن الآخرين منذ البداية، مؤكداً أنه لئن كان قد دافع عن تلك التحليلات والآراء أول الأمر فإنما فعل ذلك مع كثير من التحفظ. بل مضيفاً أنه إنما تعمد أن يستفز روسو إذ وجده من أنصار ج.ج. وفكره، أملاً في أن يوصله إلى بر الأمان ويدفعه إلى قراءة نصوص هذا الأخير قراءة صحيحة. وهكذا إذ حقق تلك الغاية بل حتى قرأ في طريقه النصوص المفترى عليها للمفكر المفترى عليه، ها هو ذا قد أضحى من قرائه المستعدين للدفاع عنه. بل أكثر من هذا ها هو ذا قد بات مقتنعاً حتى بوجود مؤامرة تحاك من حول ج.ج. وبات على استعداد الآن للعمل يداً بيد مع روسو لإيصال كتابات وأفكار ج.ج. الحقيقية إلى مزيد من القراء والدفاع عنها ضد كل المتآمرين والمفترين... ويختتم الرجلان الحوارات بالتوجه في طريقهما معاً لزيارة بطلهما المشترك.

عمل جدير بكاتبه

من الواضح أن هذا التلخيص لا يمكنه أن يفي ذلك العمل الكتابي الفكري الفريد من نوعه في نهاية الأمر حقه أو يعبر عن قيمته الحقيقية. ففي الحقيقة إننا أمام نص في غاية القوة والذكاء يبدو في نهاية المطاف جديراً بمكانة جان جاك روسو (1712-1778 ) الفكرية التي أنتجت للإنسانية إلى جانب "الاعترافات" و"العقد الاجتماعي" و"إميل والتربية" بعض أفضل وأقوى النصوص التي نبعت من مساهمة اللغة الفرنسية في الفكر التنويري، ونعرف أن عديداً منها كانت له اليد الطولى في الوعي الفكري الذي أدى إلى اندلاع الثورة الفرنسية، دون أن يكون مسؤولاً على الإطلاق عن انحرافات تلك الثورة وموبقاتها!

إبراهيم العريس