أطلقت طهران حملة سريعة ضد الرئيس العراقي برهم صالح، متهمة إياه بالتواطؤ مع الولايات المتحدة وإسرائيل والخليج لتنصيب رئيس وزراء عراقي جديد مناهض للنفوذ الإيراني في بلاده.
وبدأت الحملة ضد الرئيس العراقي عندما وجه سؤالا إلى البرلمان عن الكتلة الأكبر، التي يفترض أن تقدم له مرشحا محددا يكلفه بتشكيل الحكومة، وفقا للسياقات الدستورية، إذ اعتبرت هذه الخطوة محاولة للتخلص من المسؤولية وتوريط مجلس النواب في دوامة لن تنتهي.
ووفقا للرؤية الإيرانية، فإن على برهم صالح أن يتشاور بسرية تامة مع ممثليها في العراق لاختيار رئيس الوزراء الجديد، ثم الإعلان عن تكليفه، من دون الخوض في التفاصيل.
وفي ظل استمرار الاحتجاجات الغاضبة التي أطاحت بحكومة عادل عبدالمهدي، فإن الانصياع للرؤية الإيرانية بالنسبة إلى الرئيس العراقي يعد انتحارا سياسيا، لذلك بدا أن برهم صالح يحاول أن يبدو معارضا لتوجهات طهران في هذا الملف.
وبدلا من أن يخوض بعض الاجتماعات الخاصة قبل بلورة اتفاق المرشح الجديد، راح صالح يعقد اللقاءات والندوات العلنية لتحديد مواصفات رئيس الوزراء الجديد، واضعا شروط المتظاهرين على رأس أولوياته، الأمر الذي أغضب الإيرانيين ودفعهم إلى اتهام الرئيس بإضمار خطة لتسهيل استيلاء شخصية مقربة من الولايات المتحدة ودول الخليج على السلطة في العراق، مستغلا الاحتجاجات الشعبية الواسعة.
ومنذ يومين، ليس للأحزاب والميليشيات العراقية الموالية لإيران من حديث إلا خيانة برهم صالح وتحركاته الخبيثة وقيادته مؤامرة دولية من أجل قلب نظام الحكم في العراق، وتوفير بيئة آمنة لبقاء القوات الأميركية في هذا البلد.
وتقول كتائب حزب الله، وهي الفرع العراقي لحزب الله اللبناني بزعامة حسن نصر الله، “كنا ندرك أن أطرافا مشبوهة عملت على استغلال (الاحتجاجات) وركوبِ موجتها، لكي تنفذ مخططاتٍ شيطانية لا تمتّ بصلة لما يعانيه الشعب من مشاكل وأزمات”.
وأشارت إلى أنه “في خضم الحراك السياسي الجاري لاختيار شخصية تتولى رئاسةَ الوزراء وتتمتع بمواصفات تتناسب والمرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، نعتقد أنه ينبغي على من يرشح نفسه لتحمل هذه المسؤولية أن يتحلى بالوطنية، والنزاهة، وعدم الرضوخ للأهواء والميول الحزبية والفئوية، (…) وأن يتحلى بالشجاعة والإقدام في الوقوف بوجه المشروعِ الصهيوأميركي السعودي الخبيث في العراق”.
وأضافت كتائب حزب الله، التي أسسها نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس وتدار مباشرة من قبل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، “لا شك في أن إخفاق القوى السياسية في تقديم مرشح لرئاسة الوزراء ضمن المدة المقررة هو مؤشر على عدم الجدية والتقاعس، وهو ما سيفتح الباب مشرعا أمام رئيس الجمهورية لتولّي المسؤولية مستغلا ثغرات الدستور وتفسيراته المتعددة، للتناغم مع المشروع الأميركي الرامي إلى فرض الوصاية السياسية على العراق”.
ونظرا لبقاء يوم واحد من المهلة الدستورية الممنوحة للرئيس كي يختار مرشحا يكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة، فقد أعد تحالف البناء، الذي يضم قادة الميليشيات العراقية المسلحة بالإضافة إلى ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، خطة لضمان تجسيد الرؤية الإيرانية، أو على الأقل تعطيل أيّ واحدة مضادة لها.
وتتضمن الخطة اقتراح اسم وزير الاتصالات السابق محمد علاوي ليكون مرشحا لتشكيل الحكومة، وإن لم يوافق صالح سيطرح عليه اسم قصي السهيل، عضو ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي ووزير التعليم العالي في الحكومة الحالية.
وفي حال رفض صالح السهيل أيضا، سيترك له تحالف البناء تكليف أيّ مرشح بتشكيل الحكومة، على أن يتم إجهاضها في البرلمان، باستخدام النفوذ الإيراني.
وتبدو القوى السياسية العراقية الموالية لإيران مصرّة على ترشيح من يمثلها لتشكيل الحكومة القادمة، أو على الأقل يضمن مصالحها في المرحلة الانتقالية، التي يفترض أن تشهد انتخابات مبكرة.
ويستبعد النائب نعيم العبودي عن حركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي تكليف مرشح من “التكنوقراط المستقل” بتشكيل الحكومة، برغم أنه أحد أبرز مطالب المتظاهرين، متذرعا بأن تجربة الحكومة مع هذا النوع فشلت سابقا.
لكن العبودي يقر بأن تمرير مرشح حزبي في هذا التوقيت أمر معقد للغاية، لذلك ربما يصار إلى تكليف سياسي مستقل عن أحزاب السلطة الحالية بتشكيل حكومة مؤقتة، تستمر لمدة عام واحد، يفترض أن يشهد انتخابات مبكرة.
وتواجه إيران مأزقا حقيقيا على مستوى إدارتها للعملية السياسية في العراق. فاختيار رئيس وزراء للمرحلة القادمة التي لا بد أن تكون حكومتها انتقالية لإدارة البلاد والتهيئة لانتخابات مبكرة هو أبرز مؤشرات ذلك المأزق.
ولم تعد الأمور كما كانت عليه في السابق بعد أن فرض المحتجون وجودهم على الطبقة السياسية، كونهم الجهة التي تصادق على أيّ شخصية يتم ترشيحها لملء ذلك المنصب.
وهنا انتهى دور المشاورات السرية والتسويات التي كانت تجرى أساسا بين الكتل السياسية برعاية إيرانية وإشراف مباشر من قبل قاسم سليماني.
وقال مراقب سياسي عراقي إن التظاهرات عصفت بالمشهد كله وبات المرشحون يتساقطون واحدا بعد الآخر من غير أن تقوى الأحزاب المهيمنة على السلطة على هضم ما يمكن أن تواجهه من “مؤامرات شعبية” القصد منها تقليم أظافرها والحد من هيمنتها على السلطة التي هي الوجه المحلي للهيمنة الإيرانية.
وأضاف “إذا كان برهم صالح قد انتهى إلى قناعة مفادها النأي بنفسه عن لعبة جرّ الحبل بين المحتجين والأحزاب فلأنه قد أدرك أنه لا يقوى على إدارة تلك اللعبة وأن هناك أشياء كثيرة قد فلتت من سيطرة الأحزاب التي لم تعد قادرة على فرض رئيس حكومة يناسب توجيهاتها”.
ومن المنتظر، حسب الدستور، أن تعود الأمور إلى رئيس الجمهورية ليقوم بمهام رئيس الوزراء في المرحلة الانتقالية وهو ما سيسدّ الباب نهائيا أمام إيران، ليكون لها في ما يمكن أن تؤدي إليه خطوة مثل إنهاء عمل مجلس النواب والتمهيد لانتخابات مبكرة في سياق قانون انتخابي جديد.
وأشار المراقب إلى ما يخيف الميليشيات الموالية لإيران أن يتم تجريدها من مكتسباتها والامتيازات التي تحصل عليها من خلال وجودها المباشر وغير المباشر داخل الجسد الحكومي، وهو ما قصدته بحديثها عن وجود مؤامرة تعتبر رئيس الجمهورية طرفا فيها.