رفتن به محتوای اصلی

عبقرية كاندينسكي في معرض افتراضي

لوحة من معرض كاندينسكي
AvaToday caption
خلال سنوات دراسته الفن، بلور كاندينسكي جمالية "البقعة الملوّنة" في لوحات مستوحاة من الفولكلور والفن الشعبي الروسيين. لكن خيبته من النظام التعليمي للفن في ألمانيا دفعه إلى الترحال داخل أوروبا
posted onMarch 18, 2021
noدیدگاه

لا عجب في اختيار القائمين على "مركز بومبيدو" (باريس) الروسي فاسيلي كاندينسكي (1866-1944) موضوعاً للمعرض الافتراضي الأول الذي ينظّموه حالياً بالتعاون مع مؤسسة "غوغل فنون وثقافة"، فهذا الفنان الرؤيوي سعى طوال حياته ونجح في خلق عالم تشكيلي وروحي ثوّر مفهوم الفن وممارسته بطريقة لا سابق لها، ووضع تأملات نظرية تتجاوز الإطار المحدد لفن الرسم في كتب وأبحاث لا تزال إلى حد اليوم مرجعية.

وإذا كانت أعمال كاندينسكي وتداعياتها على الفن عموماً، وعلى الحركات التجريدية خصوصاً، معروفة، لكن الإنسان الذي يقف خلفها لم يحظ بعد بالمعرفة نفسها. من هنا أهمية معرضه الافتراضي الحالي الذي يسمح، بفضل رقمنة معظم لوحاته ورسومه والوثائق الغزيرة التي تركها خلفه (صور فوتوغرافية، مراسلات، دفاتر...)، بالاطلاع ملياً عليها، وأيضاً بمشاركته أسفاره واكتشاف اللقاءات التي طبعت حياته والتعمّق، لمن يرغب، في موهبة "الحسّ المتزامن" (synesthésie) التي امتلكها وسمحت له بتشريك الأصوات والألوان والأشكال. باختصار، عناصر جوهرية لفهم إنجازات هذا العملاق وعبقريته.

المعرض يتألف من ثلاثة أقسام: الجزء الأول، عبارة عن مونوغرافيا تجمع مراسلات كاندينسكي ومخطوطاته وصوراً فوتوغرافية، بعضها يُعرض للمرة الأولى. وثائق تم وضعها في سياقها الخاص وجمعها بطريقة موضوعية (موسيقى، أسفار، علاقات...)، وتعيد بالتالي خط حياة صاحبها من بداياته في روسيا وحتى ممارسته التعليم في مدرسة "باوهاوس"، ما يسهّل علينا ولوج عالمه وحميميته.

القسم الثاني، عبارة عن "غاليري جَيْب" يسمح لنا بتأمّل على هاتفنا أو حاسوبنا أبرز أعمال الفنان التي تحضر بدورها ضمن ترتيب موضوعي فتكشف بذلك تطوّر عمله التشكيلي من بداياته التعبيرية إلى التجريد الهندسي الصافي الذي ابتكره، مروراً بسنواته الباريسية. فضاء فريد من نوعه إذاً يسمح، بفضل تقنيات "التنقيب" التي ابتكرتها شركة "غوغل"، بغوص حقيقي في كل واحدة من لوحاته المعروضة يكشف تفاصيل داخلها تفلت عادة من نظرنا وانتباهنا. تجربة مثيرة لا تدّعي الحلول مكان المقابلة التقليدية التي يوفّرها متحف أو غاليري حقيقي، بل اقتراح مدخل جديد لمقاربة عمل كاندينسكي. مدخل افتراضي طبعاً، لكن حميمي بالقدر نفسه.

القسم  الثالث من المعرض، الأكثر طموحاً لكونه يدعونا إلى تجربة تفاعلية مع الفنان تتيح لنا استكشاف موهبة "الحس المتزامن" التي امتلكها، أي تلك القدرة على إدراك متعدّد الحواس. وفعلاً، حين كان كاندينسكي يعمل على لوحة، كانت تنشط داخله حاسّتان: البصر والسمع. ولذلك، كان قادراً على ترجمة الألوان والأشكال إلى أصوات، وعلى تحويل التناغمات والارتجاجات الصوتية إلى خطوط وتشكيلات هندسية. وفي هذا الجزء من المعرض، يمكننا استكشاف لوحته الشهيرة "أصفر ــ أحمر ــ أزرق" موسيقياً عبر النقر على أي جزء منها وتكبيره، ومن خلال ذلك، اكتشاف الروابط التي أرساها الفنان بين الموسيقى والخطوط والألوان.

ولمن يجهل كاندينسكي كلياً، يوفّر معرضه الحالي أيضاً معطيات نقدية ضرورية لفهم مسيرته الفنية وإنجازاته، تظهر على الشاشة بالتتابع لمرافقة مختلف مراحل الغوص البصري المقترح في عمله. هكذا نعرف أن هذا الفنان دخل التاريخ بابتكاره التجريد الهندسي وتسجيله من خلاله قطيعة راديكالية مع كل ما سبقه. فبتحريره فن الرسم من ضرورة تمثيل أشكال مادية يمكن التعرّف إليها، بات هذا الرسم رسماً فحسب، لا مرجع له سوى نفسه. وفي هذا السياق، اعتبر أن ما يجب النظر إليه هو اللون والشكل، وبالتالي لغة الفن التي، بوصفها ضرورة داخلية للفنان، وسيلة نقل مباشر للفكر والانفعالات.

ولتسجيل هذه القطيعة، كان على كاندينسكي أن يكتشف عام 1896 سلسلة اللوحات التي رسمها كلود مونيه تحت عنوان "حُزَم التبن". اكتشاف أحدث زلزالاً داخله لأنه لم يكن قادراً على التعرّف في هذه الأعمال إلى ما أراد مونيه تمثيله، وبالنتيجة، لأن "الأشياء فقدت قيمتها كعناصر أساسية في اللوحة"، على حد قوله، ما دفعه إلى التخلي عن مهنة التعليم الجامعي والتوجه إلى ميونيخ لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة. وبعد فترة قصيرة، لا تلبث لوحة وضعها بالخطأ عقباً على رأس في محترفه، ولم يتمكن من التعرّف إلى أشكالها، أن تجعله يقتنع بأن الأساسي يكمن أبعد من الواقع.

وخلال سنوات دراسته الفن، بلور كاندينسكي جمالية "البقعة الملوّنة" في لوحات مستوحاة من الفولكلور والفن الشعبي الروسيين. لكن خيبته من النظام التعليمي للفن في ألمانيا دفعه إلى الترحال داخل أوروبا، قبل استقراره في مدينة مورنو عام 1908 وينطلق في الرسم داخل الطبيعة المحيطة بها التي أوحت مناظرها له بألوان لوحاته. أما الفنانون التوحّشيون (Fauves) الذين اكتشفهم في باريس، وتجرّأوا على رسم العالم بألوانهم الخاصة، فشكّلوا بدورهم مصدر وحي له وحثّوه على متابعة بحثه عن "انطباعات الطبيعة الداخلية". ومع أن سلسلة "ارتجالات" تعكس استمراره آنذاك في المراوحة بين تصوير وتجريد، لكنه كان اكتشف سلطة الألوان ولعبة ارتجاجاتها الحرّة للتخلي تدريجاً عن التصوير واستبدال ألوان الطبيعة بأخرى صافية ونيّرة.

في العام 1912، أصدر بحثه الشهير "روحانية في الفن، وفي الرسم تحديداً" الذي استقى فيه من ممارسته الفنية نظريات لامعة تندرج إلى حد كبير في سياق ثقافي باطني وعلمي، وتدين بالتالي لحقبته التي كانت مفتونة بظواهر التجسيد والإشعاع ونقل الأحاسيس. ومن أبرز هذه النظريات، نظرية تناغم الألوان التي استخلصها من مقاربته الشعرية والذاتية للفن، وتقوم على ستة تنويعات: الأزرق، الأخضر، الأصفر، البرتقالي، الأحمر والبنفسجي. تنويعات تنقسم بدورها إلى مجموعتين: الألوان الحارّة والألوان الباردة، ولا تهمل التفاعل الحيوي للونين الأبيض والأسود. بعد ذلك، عمد إلى منح هذه الألوان شكلاً محدّداً، وإلى إرساء مقاربة للشكل تعكس أيضاً تجديداً راديكالياً، إذ يحضر الخطّ فيها كـ "بصمة الطاقة" وكـ "أثر مرئي للمخفي".

هكذا تطوّرت مفرداته التشكيلية، التي جعلت منه أحد أهم فناني القرن العشرين، داخل ثلاثة ميادين: الارتجالات، الانطباعات وخصوصاً التشكيلات التي لم تعد تتحاور داخلها سوى الخطوط الحيّة والمثلثات والأقواس وأنصاف الدوائر والكتل الملوّنة.

يبقى أن نشير إلى أن كاندينسكي، أبعد من هاجس التخلّص من قوانين التمثيل التقليدية الذي تسلّط عليه، طمح إلى إحلال علاقة آنية جديدة بين الفنان والمتأمّل في أعماله. وهو ما ينجح معرضه الافتراضي الحالي في إنجازه على أفضل وجه.