عبد الرحيم التوراني
وكأني بالرئيس دونالد ترامب بعد هزيمته أمام منافسه الديمقراطي جوزيف بايدن، وبعد تغريداته "المضللة" وفق تحذير "تويتر"، ورفضه للهزيمة، استفاق من دوخته ليداوي سقطته باستئناف "أم المعارك الترامبية" التي سعى إليها في الشرق الأوسط بتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب، في عملية ما سمي ب"صفقة القرن".
بعد الإمارات والبحرين والسودان، وصل الدور إلى أقصى بلد في الجغرافية العربية، وفعلا كانت الخرائط القديمة تشير إليه باسم "المغرب الأقصى"، لكنه أصبح أكثر قربا لإسرائيل من دول المواجهة في منطقة الشرق الأوسط.
فالتطبيع العلني للمغرب مع الدولة العبرية صار أكثر من مطلوب، لاعتبارات تاريخية وسياسية واجتماعية.
كما هو معروف لا شيء في السياسة من دون مقابل. إنه سلام بالمقايضة، سلام اقتناه ترامب بقرار تاريخي وغير مسبوق لم يجرؤ عليه أي رئيس أميركي سبقه إلى البيت الأبيض، حيث قام بالتوقيع على إعلان "بموجبه تعترف الولايات المتحدة الأميركية بسيادة المغرب على الصحراء المغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو منذ سبعينات القرن الماضي". مؤكدا أن "اقتراح المغرب الجاد والواقعي والجاد للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ودائم لتحقيق السلام الدائم والازدهار". ومشيرا إلى أن المغرب اعترف بالولايات المتحدة في 1777 "ومن ثم فإنه من المناسب أن نعترف بسيادتهم على الصحراء الغربية".
وكشف بيان صادر عن البيت الأبيض عن عزم الولايات المتحدة الأميركية الالتحاق بركب دول أفريقية وعربية أقدمت على فتح قنصليات لها في مدينة الداخلة بإقليم الصحراء الغربية "لتعزيز الفرص الاقتصادية والتجارية للمغرب". لاعتقاد الولايات المتحدة أن "قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خيارًا واقعيًا لحل النزاع".
ولم يكتمل وصف هذا القرار بـ"التاريخي" إلا عندما اقترن بإعلان اتفاق المغرب وإسرائيل على تطبيع العلاقات بينهما بوساطة أميركية.
هذه.. بتلك
شكّل هذا "الاختراق الهائل للسلام في الشرق الأوسط" حسب عبارة ترامب، والذي تم الاتفاق على إبرامه عبر تقنية التواصل المرئي بين الرئيس الأميركي والعاهل المغربي محمد السادس، حدثا كبيرا استقطب اهتمام الوكالات والفضائيات الإخبارية، لكنه كان خبرا متوقعا ومرتقبا وخاليا من عناصر المفاجأة والإثارة، بل كان قصة معلنة أوضح ترامب من قبل تفاصيلها بصيغة لا تحتمل التأويل وبأسلوبه الجريء كما عهده الناس. فترامب يردد دائما صراحة ما يفيد: "هذه.. بتلك". الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء المغربية ثمنه التطبيع مع دولة إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل.
وتقول مصادر مختلفة إن ترامب وضع عينه على المغرب والسعودية أولا بخصوص هذا الشأن، قبل جره الإمارات والبحرين والسودان إلى التوقيع مع نتانياهو، إلا أن المغرب ظل يتلكأ ويرجئ الموضوع في انتظار الظرف المناسب والمواتي، مصرا على حل إقامة الدولتين وحقوق الشعب الفلسطيني. وبعدما تأخر تأثير الضغوط الأميركية على المملكة السعودية، أدرك ترامب أن الوقت يعاكسه، فاستعجل لجني ما حصل عليه اليوم قبل الغد، خصوصا وقد وضع في رأسه ألا يغادر البيت الأبيض إلا وهو مكلل بـ"نصر تاريخي" وكبطل تاريخي و"صانع للسلام".
ردود فعل مختلفة
يعتقد بعض المراقبين أن التحاق المغرب بقطار التطبيع مع إسرائيل لن تكون له نفس ردود الفعل التي خلفها تطبيع الإمارات والبحرين والسودان، التي اتهمت بـ"تفريطها بحقوق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وخدمة للمشروع الصهيوني"، إذ أن له وضع خاص إزاء القضية الفلسطينية وحصل في سياق مغاير. فالرئيس محمود عباس رحب بالتطبيع المغربي الإسرائيلي خلافا لتخوينه للإمارات والبحرين والسودان، بعد مكالمته الهاتفية مع العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم إعلان التطبيع، أبلغه فيها بأن الرباط ملتزمة بحل الدولتين للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وأكد العاهل المغربي على "أن المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين هي السبيل الوحيد للتوصل إلى حل نهائي ودائم وشامل للصراع".
وربما لن يحذو الشارع المغربي حذو نظيره في مصر أو الأردن برفض التطبيع، بل سيكون منقسما ويتجاذبه طرفان، ما بين معارضي التطبيع والمرحبين به، وهو أمر واقع كان ماثلا من أعوام قبل قدوم التطبيع العلني، من خلال حضور إسرائيلي ثقافي وفني وسياسي وسياحي، وأيضا من خلال مجموعات مغربية صحافية وفنية وسياسية ظلت تتوافد بمناسبة أو من دونها على تل أبيب، وتتحدث همسا وجهرا عن ضرورة إقامة علاقات كاملة وعلنية مع إسرائيل، خصوصا من أقطاب الحركة الأمازيغية، علما أن اليهودية كانت هي ديانة الأمازيغ في المغرب قبل أن يصلهم الإسلام عن طريق العرب. لذلك تتوقع المواجهة بين شارعين، وسيرفع مؤيدو التطبيع في وجه معارضيه في الداخل شعارات منها: "تازة قبل غزة". (تازة مدينة مغربية)، وأن "القضية الوطنية أولا"، وغيرها من الشعارات والتحليلات التي ستتنافس على استساغة الشعب المغربي للموقف الرسمي لبلده. فالمغرب هو الوحيد ضمن البلاد العربية من ينص دستوره على أن الثقافة اليهودية مكون أساسي ورافد من روافد هويته الوطنية.
لذلك، فالتطبيع ما بين المملكة المغربية وإسرائيل قائم عمليا منذ تأسيس الدولة العبرية سنة 1948، إذ يحتفظ التاريخ بواقعة ترحيل المغرب لحوالي مائة ألف من اليهود المغاربة إلى "إسرائيل"، وأن قوافل السياح الإسرائيليين إلى المغرب لا تتوقف طوال العام، فالجواز الإسرائيلي كان دائما مقبولا في المطارات الجوية والحدود البحرية في المغرب، وعدد من الإسرائيليين هم من أصل مغربي ولم تسقط عنهم الجنسية، ومن ضمنهم شخصيات تمكنت من الوصول إلى مناصب ومهمات وزارية ورسمية عالية ومهمة في إسرائيل. ويبلغ عدد اليهود المغاربة في اسرائيل حوالي مليون نسمة، ظل مرحبا بهم لزيارة مدنهم وقراهم القديمة وأضرحة جدودهم مع مآثرهم الدينية. إذ يتراوح عدد الإسرائيليين الوافدين على المغرب ما بين أربعين ألف وخمسين ألف زائر سنويا، يصلون عبر اسطنبول أو باريس، وينتظر قريبا تدشين خط رحلات مباشرة بين تل ابيب والدار البيضاء.
ما يعني أن العلاقات السياسية والسياحية والثقافية والفنية نشطة من سنوات، من خلال مشاركة فنانين موسيقيين وتشكليين وسينمائيين وكتاب يهود من أصول مغربية، ولافت أن التطبيع مع المغرب تزامن مع أول ليلة في "عيد الأنوار" اليهودي أو "حانوكا"، وتعني بالعبرية "تدشين" وكان تدشينا لعلاقة جديدة لإسرائيل مع محيطها العربي.
علاقات وطيدة
كما أثير الكلام دائما عن علاقات أمنية وتنسيقية بين الموساد وأجهزة الاستخبارات المغربية من زمن قديم، يعود إلى ما قبل المشاركة في اختطاف واغتيال المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة من وسط باريس عام 1965. وكانت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية قد كشفت قبل سنوات عن تقديم المغرب لتسجيلات الاجتماعات السرية للقمة العربية سنة 1965 بالرباط إلى المخابرات الإسرائيلية، ما أفاد تل أبيب في هزمها لجيوش التحالف العربي في حرب حزيران 1967.
تاريخيا، تولى الملك الحسن الثاني القيام بأدوار أساسية في التمهيد للتقارب الإسرائيلي العربي، منها التنسيق الأولي الذي سبق توقيع اتفاقية كامب ديفيد ما بين مصر وإسرائيل عام 1979، هو من دعا إلى جمع "العبقرية الإسرائيلية والمال العربي". كما استقبل الحسن الثاني علنا سنة 1986 رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز في قصره بمدينة إيفران، وسارعت الرباط إلى فتح مكتب اتصال إسرائيلي سنة 1994 بعد توقيع اتفاقية أوسلو، تم إغلاقه عقب أحداث غزة في 2000.
وعندما توفي الحسن الثاني في يوليوز 1999 شارك في موكب جنازته بالرباط وفد إسرائيلي ضخم ضم ازيد من مائتي شخصية إسرائيلية تقدمها رئيس الوزراء إيهود باراك ، والرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان، وشعمون بيريز وزير التعاون الإقليمي، وديفيد ليفي وزير الخارجية من أصل مغربي، ورئيس الكنيسيت ابراهام بورج. وقد سميت شوارع وميادين عامة باسم الحسن الثاني في إسرائيل، تعبيرا عما كان يحظى به من احترام في إسرائيل واعترافا له بحضوره القوي في مفاوضات السلام.
من جانب آخر فإن اللقاءات السرية بين المسؤولين المغاربة والإسرائيليين لم تتوقف، خصوصا على هامش اجتماعات الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة.
على الصعيد الشعبي عرف المغاربة بتعاطفهم التاريخي الكبير مع الفلسطينيين وأن أحزاب الحركة الوطنية كانت ترفع شعار "القضية الفلسطينية قضية وطنية"، وجمعيات وهيئات مساندة ودعم الكفاح الفلسطيني من أكبر تنظيمات المجتمع المدني، وكانت شوارع الرباط والدار البيضاء تشهد أكبر المسيرات المليونية للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإدانة إسرائيل وحرق علمها، كما حدث قبيل أيام، في 29 نوفمبر 2020 أمام مبنى البرلمان في الرباط، بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني عندما دعت 55 منظمة مغربية مناهضة للتطبيع مع إسرائيل إلى وقفة تضامنية حملت شعار: "فلسطين أمانة والتطبيع خيانة".
خلال حرب 1948، شارك متطوعون فدائيون مغاربة إلى جانب الفلسطينيين في، وأيضا شاركوا في الحروب والعمليات الفدائية التي تتالت منذ ذلك التاريخ. وهناك شهداء مغاربة سقطوا دفاعا عن "فلسطين"، من بينهم من تم تسليم رفاتهم في عملية التبادل التي جرت بين إسرائيل وحزب الله اللبناني عام 2008.
واضح أن جل الأحزاب المغربية، خاصة المشاركة في الحكومة والممثلة في البرلمان ستصفق لقرار التطبيع، وستتعامل مع اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء كمكسب ديبلوماسي كبير للمغرب، وكنقطة قوة إضافية لرصيد المغرب في العملية السياسية، وقوة عظمى جديدة تنضاف إلى حلف المغرب في مجلس الأمن مع فرنسا.
ينتظر أن يتصدر الإسلاميون واليساريون الراديكاليون واجهة معارضة التطبيع، أما الأمين العام لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني الذي يقود التحالف الحكومي، فسيجد نفسه في وضع أكثر من محرج، إذ سبق له في الصيف الأخير فقط أن أعلن بحماسة عن رفضه القوي للتطبيع مع "الكيان الصهيوني" نافيا أن يتخلى المغرب الرسمي عن فلسطين والتطبيع مع تل أبيب.
صدمة الجزائر والبوليساريو
مباشرة بعد القرار الأميركي لم تستطع وسائل الإعلام الفوز بأي تصريح أو رد فعل من مسؤول في السلطة في الجزائر، وقيل إن اجتماعات مغلقة للقيادة الجزائرية تبحث في موضوع الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على الصحراء. ما يفسر حجم الصدمة القوية التي حصلت لدى الجزائر.
أما موقف البوليساريو فقد جاء متلعثما، وصف الحدث بـ"الغريب"، ونفى عنه صفة المفاجأة. وعبر عن "الأسف" باتهام ترامب ببيع الصحراء للمغرب، وأن قراره "لن يغير قيد أنملة من حقيقة الصراع ومن حق شعب الصحراء الغربية في تقرير المصير"، وبأن الصحراويين "سيواصلون الكفاح المسلح ".
مواجهة الخطر الإيراني
في وقت سابق، صرح مسؤول إيراني متبجحا أن "إيران تسيطر على أربع عواصم عربية"، وأن "الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود وهي لكل الشيعة"، ملمحا إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان. لكن الطموحات الإيرانية يبدو أنها انتقلت إلى المغرب الكبير. خصوصا مع تنامي حالات التشيُّع في المغرب الذي ينتشر فيه من قديم المذهب المالكي السني. وقبل عامين ندد المغرب بالدعم الذي تقدمه إيران، لجبهة البوليساريو لزعزعة استقرار المنطقة.
وكان وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة قد اتهم الجزائر في حوار له مع المجلة الفرنسية "جون أفريك" بتوفير الدعم والتغطية للقاءات في العاصمة الجزائرية بين مسؤولين من حزب الله وجبهة البوليساريو. وقد قطعت الرباط في ماي 2018 علاقاتها الدبلوماسية مع إيران متهمة إياها بتسليح وتدريب ميلشيات البوليساريو بواسطة وكيلها في المنطقة حزب الله اللبناني.
ما يعني أن المغرب بتطبيعه مع تل أبيب قد انضم عمليا إلى التحالف الإقليمي العسكري "الناتو العربي"، أو ما سمي بـ"تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، الذي دعت إلى تأسيسه الولايات المتحدة في مؤتمر وارسو (فبراير 2019)، ووصفه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بأن سيضطلع بمهمة "التصدي للتحديات الإقليمية مثل إيران وسوريا واليمن والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين".
هكذا أضيف المغرب إلى غالبية الدول العربية في مواجهة ما يسمى بـ"الخطر الإيراني"، بعد انضمام دول الخليج الست ومصر والأردن مع الإمارات والبحرين والسودان.
إن الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء لن يطوي ملف النزاع في المنطقة نهائيا، وإن كان سيعقد من ملابسات القضية وتداعياتها، وأن الجزائر الداعم الأبرز لجبهة البوليساريو لن تستسلم أو تبتلع الفشل والهزيمة بنهاية مشروعها لفصل الصحراء عن المغرب الذي طالما اتهمته بالتوسع وحرصت على تشبيهه بإسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية. بل إن الأحقاد التاريخية التي ولدتها "حرب الرمال" في الستينيات ستتجذر، فهي من أنتجت مشكلة الصحراء الغربية.
إذن، لن يسدل الستار على الصراع المغربي - الجزائري بمكالمة صوتية مرئية وتطبيع مغربي مع إسرائيل مقابل اعتراف أميركي لصالح المغرب، بل أن الثمن في نظر الجزائر سيكون أغلى ولن تهدأ المنطقة وتستقر في المدى البعيد، ولن يعجل بحل نهائي للنزاع الإقليمي، إن لم يكن الآن بسبب تراجع الجزائر وإنهاكها لأسباب داخلية، فالغد لناظره قريب. وستظل المواجهة مفتوحة رغم دعوة الأمم المتحدة واتفاق الاتحاد الإفريقي في القمة الاستثنائية الأخيرة (6 ديسمبر 2020) على "إسكات البنادق" كما اعتمده قرار مجلس الأمن الدولي 2457، من أجل جعل القارة منطقة خالية من النزاعات، و"تخليص افريقيا من النزاعات وتهيئة الظروف المواتية للنمو والتنمية في القارة".