رفتن به محتوای اصلی

8 سنوات لتعديل "قاموس الموسيقى" لجان جاك روسو

تمثال جان جاك روسو، أمام مقبرة العظماء في باريس
الصورة : كارزان حميد - شبكة (AVA Today) الأخبارية
يؤكد روسو على أية حال أنه حرص على أن يكون غير منحاز في "الصراع" بين الأسلوبين لكنه راح يؤكد باستمرار، فصلاً بعد فصل، تفضيله للموسيقى الإيطالية التي يرى فيها صورة متكاملة لما أسماه "محاكاة الطبيعة" أي حقيقة ضروب الشغف العاطفي
posted onDecember 12, 2021
noدیدگاه

في عام 1748 وبناء على طلب زميليه المفكرين دالامبير وديدرو المحررين الرئيسيين لتلك "الموسوعة" التي أحدثت في تاريخ الفكر الأوروبي قلبة توازي القلبة التي ستحدثها الثورة الفرنسية لاحقاً في تاريخ الأمم، قام المفكر جان جاك روسو خلال فترة قياسية لا تتجاوز الثلاثة أشهر بكتابة الأجزاء الموسيقية في تلك الموسوعة. ومن الواضح أن تسرع روسو في الاستجابة للموسوعيين جعل العمل يطلع متهافتاً إلى حد كبير، ومن هنا تزاحمت ضروب النقد تجاهه ولا سيما من الموسقيين الكبار الذين دهشوا لما أتى به ذلك الكاتب الكبير الذي كان معروفاً بعلمه الواسع ودقة أسلوبه، ولكن بدا عليه هذه المرة أنه تعامل مع الموضوع بقدر كبير من الاستهانة. وكان في مقدمة المنتقدين يومها الموسيقي الكبير جان فيليب رامو الذي بقدر ما كانت شهرته تقوم على الموسيقى "التصويرية" التي يكتبها لمسرحيات كبار مؤلفي المسرح في زمنه، قامت خاصة على كتابات نظرية كانت معتمدة في ذلك الزمن.

تسرع مجاني قاتل

كثرت يومها الانتقادات إذاً، لكن روسو ظل صامتاً لا يريد أن يخوض النقاش ولكن لا يريد أن يتراجع حتى وإن لم يكن رامو الوحيد الذي انتقده. ومن ثم طوي الموضوع، وقد اعتبر كثر المقالات الموسيقية في "الموسوعة" من أضعف أبوابها ومن أقل كتابات روسو جدارة بالثقة. ولكن بعد نحو خمسة عشر عاماً ونيّف سيتبين أن صاحب "الاعترافات" و"العقد الاجتماعي" إنما كان ساكتاً لأنه يحضر رده، ولكن ليس على خصومه ومساجليه، ولكن على نفسه على شكل ذلك "القاموس" الذي عنونه "قاموس الموسيقى" لمجرد أن يعطيه صفة النص الموسوعي النهائي، بمعنى أن يحله مكان كل تلك الصفحات الموسيقية التي نشرت له في "الموسوعة" العامة. والحقيقة أن روسو أصاب هدفه هذه المرة، ومن ناحيتين: الأولى أن دقة النصوص الجديدة أتت لتمحي من الذاكرة تهافت تلك القديمة وتثبت مكانة للمؤلف في عالم كان قد اتهم بأنه ما كان يجب عليه الدنو منه؛ والثانية أنه تراجع ولكن بشكل موارب فقط عن المواقف التي اتخذها ضد الموسيقى الفرنسية ممثلة برامو ونظرياته لصالح الموسيقى الإيطالية التي كان كبير ممثليها حينه الموسيقي تارتيني، وبكلمات أخرى بين إعطاء الأفضلية للميلوديا لدى تارتيني وموسيقاه الإيطالية الحسية والجزلية، وبين الهارمونيا لدى جان فيليب رامو والتي كادت تكون موسيقى مفهومية تخاطب العقل بأكثر ممّا تخاطب الروح والحسّ.

بين رامو وتارتيني

والحقيقة أن ما كتبه روسو في "القاموس" لم يأت ناسفاً، في هذه النقطة بالذات ما كان هو نفسه كتبه في الموسوعة. فهنا جوهر "نظريته الموسيقية" على أية حال ولا يمكنه التخلي عن معركته هذه. جلّ ما فعله في النص اللاحق هو التذكير بأن "الغموض" بل حتى الوهن الذي تبدى في محاججاته الأولى، إنما كان نابعاً من أن تارتيني كان لا يزال "مجهولاً" في فرنسا حينها وأن "السرعة التي فُرضت علي لإنجاز دراسة تحتاج منطقياً إلى ثلاث سنوات وأكثر، في ما لا يزيد على ثلاثة أشهر، جعلني عاجزاً عن البرهنة بشكل مقنع عما أريد قوله". بيد أن روسو لم يضع اللوم على أحد بل "على نفسي لأنني لم أكن مرغماً على القبول بذلك يومها". أما الآن، فها هو وقد امتلك الوقت الكافي لتعديل موقفه بعد تعمق في دراسة وفرها له دعم جاءه من "الأب سالييه الذي مكنني من الإطلاع بوفرة على مكتبة الملك حيث تمكنت من مراجعة كل ما أريد من كتب ومخطوطات... وما إلى ذلك". ومن الواضح هنا أن العالم والمفكر الكبير الذي كانه روسو، لم يتراجع في تلك المعركة القديمة إلا بصورة شكلية. بمعنى أن استنتاجاته ظلت هي نفسها، لكنه بات أقدر على البرهنة وبصورة علمية على أفكاره التي كانت قد تبدت عشوائية في المرة الأولى. فما الذي برهن عليه روسو وجعله، ولو من طرف خفي، يدعو قراءه إلى اعتماد "القاموس" وإهمال مساهماته في "الموسوعة"؟

قبر روسو في مقبرة العظماء (خاص)

محاكاة الطبيعة

للوصول إلى جواب هنا، لا بد من التأكيد أن روسو تناول في النص الجديد، إذا نحينا النبذ البيوغرافية للموسيقيين الذين تحدث عنهم وضروب انتقاد أعمالهم التي ظلت على حالها تقريباً، تناول مجمل النظريات الموسيقية التي كانت معروفة في زمنه، وتحديداً بأسلوب ذاتي، معلناً أنه لئن كان الاشتغال على الهارمونيا من شيم رامو، معترفاً له بذلك، فإنه هو أي روسو يفضل إنجازات تارتيني الذي لم يكن معروفاً في فرنسا حينها كما أشرنا. وفي مقدمة "القاموس" يؤكد روسو على أية حال أنه حرص على أن يكون غير منحاز في "الصراع" بين الأسلوبين لكنه راح يؤكد باستمرار، فصلاً بعد فصل، تفضيله للموسيقى الإيطالية التي يرى فيها صورة متكاملة لما أسماه "محاكاة الطبيعة" أي حقيقة ضروب الشغف العاطفي، معكوسة في نوع من "وحدة ميلودية" يعتبرها المبدأ الرئيسي الذي يعبر فيه عن "اشمئزازه" تجاه تعقدات الهارمونيا والطباق "تعقدات غالباً ما تغطي على عري الميلوديا ونقائها". ويخلص روسو هنا إلى القول "الحاسم" بأنه سيكون "من الصعب علينا أن نتجاهل واقع أن كل هارمونيتنا ليست في حقيقتها سوى اختراع قوطي، وبالتالي بربري. ومع ذلك ها هو السيد رامو يخبرنا زاعماً أن الهارمونيا هي مصدر كل ضروب الجمال التي تبثها الموسيقى؛ لكن العقل والواقع يلتقيان لدحض هذه الفكرة". وفي المقابل يفتي روسو هنا كنوع من رد قاطع بأن "كل موسيقى لا تُغنّى، ومهما كانت درجة هارمونيتها، لا يمكنها أن تكون سوى موسيقى تكرارية عاجزة عن التأثير العاطفي... وفي النهاية لا يمكنها تفادي إثارة الملل في الأذن والضيق الذي يبقي الفؤاد في برودة مطلقة".

تناقضات

وكتلخيص لهذه المحاججة التي من نافل القول إنها أتت شيئاً آخر تماماً غير تلك الأحكام القاطعة والمتسرعة التي جاءت في "الموسوعة"، يختتم جان جاك روسو (1712 –1778) في "قاموس الموسيقى" الذي سيكون آخر كتاب يصدر له في حياته، وعرف فيه كيف يعيد لنفسه اعتباره العلمي في سنواته الأخيرة، كاتباً: "أولاً، إن كل موسيقى لا يمكن غناؤها هي موسيقى مملة، مهما كان من شأن الهارمونيا التي تظللها؛ ثانياً، إن كل موسيقى يمكن أن تُرصد فيها عدة ضروب وأنواع من الغناء متزامنة ومرصوفة فوق بعضها البعض لا يمكنها إلا أن تكون سيئة...". والحال أن هذا التلخيص بدا لنقاد ذلك الزمن، ومن بينهم من وافقوا روسو على أية حال، على معظم ما جاء في هذه الدراسة، بدا لهم متهافتاً، على الأقل في هذين التأكيدين، لا سيما إذ أكد روسو هنا ما معناه أن الهارمونيا لا يمكنها إلا أن تكون في نهاية الأمر "حسّية" خالصة في الوقت نفسه الذي يأخذ عليها أنها ليست في حقيقتها أكثر من "اختراع قوطي وبربري". فـ"كيف يمكن أن يستسيغ الإنسان في حالته الطبيعية الخاصة مثل هذا الاختراع هو الذي لم يكن يعرف سوى الغناء الجماعي في أزمنته الأولى؟".

إعادة اعتبار حاسمة

مهما يكن، وبصرف النظر عن هذه الملاحظة التي قد يؤدي التعمق في تحليلها إلى رفض جزء لا بأس به من نظرية روسو كلها، كان لـ"القاموس" صدى واسع في الأوساط الثقافية الفرنسية بحيث، إذ راحت تنسى على ضوئه وبالتدريج تلك المساهمات التي أساءت إلى صاحب "إميل أو التربية" في الموسوعة، أعادت إليه اعتباره كمثقف وناقد كبير ومساجل بارع في قاموس راح يطبع مراراً وتكراراً بعدها وما زال يطبع حتى اليوم على رغم أن النظريات الموسيقية الأكثر حداثة راحت تتجاوز العديد من أفكاره وتأكيداته.