حسن فحص
لم تكن الإشارة التي صدرت عن سكرتير المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية في طهران عباس عراقتشي من فراغ عندما تحدث عن وجود "مساع لفرض عزلة على إيران"، بخاصة أنه جاء إلى هذا الموقع بعد مسار طويل من العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية، وتوليه مهمة المفاوض الرئيس في المفاوضات النووية مع مجموعة السداسية الدولية 3+3، التي انتهت بالتوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة حول البرنامج والأنشطة النووية الإيرانية والمعروفة بالاتفاق النووي في 15 يوليو (تموز) 2015.
ويمكن فهم هذه الإشارة من خلال رصد بسيط ومواكبة عادية لما تقوم به السلطة التنفيذية أو الحكومة برئاسة إبراهيم رئيسي، والتردد الذي تعيشه في اتخاذ القرارات أو المبادرة إلى وضع حلول عملية وجذرية لمختلف الأزمات التي تعانيها إيران على مختلف المستويات، وليس فقط على المستوى الاقتصادي والمعيشي.
بات واضحاً، أن القناعة التي تولدت لدى عديد من المعنيين بالأوضاع الداخلية في إيران من مختلف التوجهات السياسية الموالية والمعارضة، قد تكرست وتحولت إلى واقع لا يمكن العبور عنه أو تجاوزه، من دون تحميل رئيس الجمهورية المسؤولية المباشرة عن هذا الضعف والتراجع وما يمكن أن ينتج منه من تداعيات سلبية تضاف إلى السلبيات الكثيرة والعديدة التي يعانيها أداء المنظومة الحاكمة والسلطة التنفيذية، على حد سواء.
وعلى رغم كل الدعم الذي تحاول قيادة النظام، تحديداً المرشد الأعلى، تقديمه لرئيسي وحكومته، فإن الرجل يبدو أن له رأياً آخر، فهو لا يسعى إلى ترجمة هذا الدعم لقرارات ومواقف حازمة في مختلف القضايا وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية، إذ يبدو محكوماً بخلفية "عدم الثقة" بالنفس، خصوصاً أنه يدرك أن الآلية التي جاءت به إلى هذا الموقع لم تمنحه التمثيل الشعبي الواسع والصلب الذي يعطيه صلاحية الرفض أو الوقوف بوجه طموحات وأطماع القوى التي ساعدت في وصوله أو تبنت ترشيحه لرئاسة السلطة التنفيذية.
وأكثر ما يظهر هذا التردد وعدم الرغبة في اتخاذ قرار أو خطوة حاسمة قد تعكس انفراجاً غير مسبوق لدى رئيسي وتتحول إلى "سلم نجاة" اقتصادي لحكومته وعهده الذي جاء بكثير من الوعود "الوردية" التي تصب في سياق تثبيت قدرة التيار والقوى المحافظة والدولة العميقة التي جاءت به بأنها الأقدر على تقديم الحلول والتوصل إلى تفاهمات، هو الآليات والمواقف المتعلقة بأزمة الملف النووي والمفاوضات مع المجتمع الدولي، تحديداً أنه استطاع الحصول على دعم غير مسبوق لم يتمتع به أي رئيس سابق للجمهورية.
تمثل هذا الدعم في إزاحة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني من موقعه لصالح نقل الملف لإدارة الحكومة وجهازها الدبلوماسي، تحت إشراف مباشر من المرشد الأعلى للنظام، في حين أن روحاني وعلى رغم التسوية التي عقدها عند وصوله إلى الرئاسة عام 2013 والتي وضعت المفاوضات في هذا الملف تحت إدارة الرئيس ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، فإنه لم يستطع الخروج من تحت وصاية المجلس الأعلى للأمن القومي الذي تولى فرض اتفاق عام 2015 داخلياً بعيداً من البرلمان والقوى السياسية المعارضة له.
والتردد لا يقتصر على ملف التفاوض حول الأزمة النووية، ومدى تحكم التيار المعارض لأي اتفاق بين إيران والولايات المتحدة حول هذه الانشطة، والجدل الذي يثار حول الأهداف والأبعاد التي يجب أن تتحقق من هذه المفاوضات، بل يبدو رئيس الجمهورية غير معني بهذا الجدل، وجل ما يقوم به هو ترديد أو استعادة مواقف المرشد الأعلى وتوجيهاته، والتي تعزز الاعتقاد أنه غير معني بما يقوم به الفريق المفاوض والمواقف التي يتخذها في دفع أو عرقلة المسار التفاوضي، وكأنه يؤكد "استقالته" من تحمل المسؤولية عن هذه المفاوضات، بخاصة أنها لا تقع ضمن صلاحياته ومسؤولياته على رأس السلطة التنفيذية والجهة التي تدير هذا الملف.
ولا تقف تداعيات هذه الاستقالة على مختلف مستويات التعامل مع الأزمة النووية، على رغم إدراكه أن التوصل إلى أي نوع من التفاهمات سينعكس إيجاباً على خطته الطموحة في معالجة الأزمة الاقتصادية، بل تشمل أيضاً المجال الاقتصادي وما يعانيه هذا القطاع من تفاقم أزماته وما يمكن أن يحمله من تهديدات كامنة لاستقرار الأوضاع الداخلية التي تقف على حافة الانفجار، بحيث يظهر رئيس السلطة التنفيذية للحكومة الإيراني وكأنه غير معني بالمعالجة الجادة لأداء فريقه الاقتصادي، ما يعزز الاعتقاد أن هذا الفريق جاء من خارج إرادة الرئيس، أو فرض عليه من جهات أخرى، أو زرعوا في مواقعهم في إطار صفقات بين أقطاب وأجنحة التيار المحافظ والدولة العميقة التي تسعى إلى الحفاظ على مكاسبها ومصالحها داخل المنظومة وإدارة الدولة.
هذا الأداء الضعيف لإبراهيم رئيسي، والفرق الواضح بين أدائه وأداء أسلافه في رئاسة الجمهورية، بخاصة الرئيس السابق حسن روحاني الذي لم ينازل عن صلاحياته ومواقفه وآرائه على جميع المستويات التي تخص عمله على رأس السلطة التنفيذية وإدارة ملفي التفاوض والاقتصاد، وخاض مواجهات مباشرة وغير مباشرة مع المرشد الأعلى، يبدو أن البعد الذي يتحكم بأداء رئيسي يرتبط بالصراع الصامت والمحتدم في الوقت نفسه على موقع خلافة المرشد أو الخليفة الثالث، وهو قد يكون السبب في عدم رغبته بالدخول في صراعات جانبية مع أقطاب الدولة العميقة قد تعوق أو تعرقل وصوله إلى ما يطمح له في أن يكون من بين الأسماء المتداولة لتولي موقع المرشد مستقبلاً.