محمد قواص
شيء ما استدعى تلاعباً متسارعاً في قواعد اللعبة بين إيران وإسرائيل. حاجة ما عجلّت قيام طهران باستدعاء ردّ إسرائيلي غير مسبوق ضد مواقعها في سوريا، وخريطة ما تطلّبت تطوير إسرائيل لقواعد الاشتباك في جوانبها الميدانية، كما في شكل التغطية السياسية الرسمية. وما استدعى وما تطلّب سيظهر أكثر وضوحاً في الأيام المقبلة عشية مؤتمر وارسو الدولي.
تحدثت تل أبيب عن إطلاق وحدة إيرانية في سوريا صاروخ أرض-أرض استهدف هضبة الجولان قبل أن تعترضه "منظومة القبة الحديدية". جرى أمر ذلك ربما من وراء ظهر روسيا أو بغض طرف خبيث من موسكو. منابر الإعلام القريب من دمشق وطهران تفاخرت بذلك. قالت تل أبيب إن الصاروخ كان يستهدف مجمع حرمون للتزلج. بدا أن طهران تغري إسرائيل بالانزلاق. وبدا أن إسرائيل تتوق لذلك. وبدا أيضاً أن في سلوك طهران كما تل أبيب تناغم وتقاطع في التناتش على الأرض السورية دون ان يعني ذلك أن الأمور غير محسوبة.
كان السلوك الإسرائيلي السابق يحترم مقولة "أكل العنب لا قتل الناطور". جرت الهجمات الإسرائيلية السابقة، وتحديداً منذ عام 2013، دون إعلان رسمي من سلطات تل أبيب العسكرية والسياسية. كان المعنيون بالغارات الإسرائيلية، لاسيما المستهدفون، يعرفون أن النار إسرائيلية. إلا أن إسرائيل كانت تلوذ بالصمت، قيل تارة لعدم إحراج نظام دمشق الذي يعِدُ دائماً بالرد في "الوقت المناسب"، وقيل تارة لاحقة، لعدم إحراج روسيا التي تسيطر على الأجواء ويجري إعلامها دائماً بحراك إسرائيل العسكري في سوريا وأهدافه.
تدشن الغارات الأخيرة مرحلة جديدة في تعاطي إسرائيل مع إيران في سوريا، وربما في العراق لاحقا، توحي أنه قد بات مطلوبا "أكل العنب عبر قتل الناطور". هي حرب حقيقية. وإذا لم تكن تلك النيران التي توزعت على أهداف إيرانية بهذه الشدة وتلك الكثافة حرباً، فكيف تكون الحروب؟
تتعامل إسرائيل نفسها مع الأمر بهذه الصفة، أو هكذا تعبر عن نفسها. العمليات أعلن عنها رأس السلطة السياسية في إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وربما لحسابات انتخابية، قبل أن يجاهر بتفاصيلها جنرالات الجيش الإسرائيلي. تتحدث تل أبيب عن مرحلة المواجهة الشاملة مع إيران (وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس). اختارت تل أبيب الانقلاب على تقاليدها السابقة التي كانت تداري من خلالها غاراتها بالكتمان. اختارت تل أبيب تحضير الرأي العام الداخلي لحرب كبرى محتملة. واختارت أن تعلن عملياً بأن اجتماعات الضباط الروس والإسرائيليين الأخيرة أثمرت عودة للتنسيق الحميم بين موسكو وتل أبيب.
ولئن استدعت إيران الرد الإسرائيلي لأسباب تكتيكية، فإنها ربما لم تتوقع حجمَ هذا الرد وتبدلَ الصياغة السياسية الإسرائيلية له. لا يبدو أن طهران، واستنادا إلى تجارب الماضي، ستقوم بالرد، لكنها بالمقابل تعلن (على لسان قائد القوات الجوية الإيرانية الجنرال عزيز نصير زادة)، أنها تواقة لإزالة إسرائيل عن الخارطة. أسقطت طهران برمشة عين ما حاول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تسويقه لمجلة "لو بوان" الفرنسية الشهر الماضي في نفي أن تكون بلاده قد دعت يوماً إلى تدمير إسرائيل. وما بين ما هو عملي في ما ارتكبته إسرائيل ضد مواقع الحرس الثوري في سوريا، وما هو نظري في تهديدات جنرال إيران الغاضب، يظهر جلياً تراجع ميزان القوى على حساب إيران في سوريا، ليس فقط لصالح إسرائيل، بل لصالح روسيا وتركيا والولايات المتحدة في ما يتداولونه ويتحرون التوصل إليه من تسويات في هذا البلد.
تقول منابر إيران الإعلامية إن جنودها أخلوا قواعدهم ومراكزهم قبل أن تستهدفها النيران الإسرائيلية والأرجح أن هذا صحيح. طهران التي أطلقت صاروخها صوب إسرائيل، كانت تعرف أن الردّ آتٍ، وبالتالي فإن إخلاء مواقعها المحتمل استهدافها هو من الأبجديات العسكرية. أرادت إيران اشتهاء نيران إسرائيلية تزيد من أوراق على طاولة المفاوضات القادمة مع واشنطن تقايض بها إعادة تموضع على طريق انسحاب ما لنفوذها من سوريا. تدرك إيران أن أمر ذلك بات مطلبا روسيا، قبل ان يكون أميركيا إسرائيلياً، وأن حاجة نظام دمشق، وفق الرعاية الروسية، إلى تطبيع مع النظام العربي بات مشروطاً بهذا الانسحاب.
لا يمكن لإيران إلا أن تقرأ بعناية نصوص الجولة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في الشرق الأوسط. جال الرجل على عواصم المنطقة مؤكداً ومكرراً موقف بلاده المتشدد ضد إيران على نحو مصوّب لما يمكن أن يُفهم خطأ من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا. كان مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون قد زار قبل ذلك إسرائيل مطمئنا تل أبيب، وربما مشجعاً لها على اختراق محرمات في تمارين ردع إيران في سوريا. قيل إن بومبيو طالب العراق في محطته في بغداد بحلّ مجاميع إرهابية تابعة لإيران ملمحا إلى إمكانية أن تتوسع أهداف إسرائيل باتجاه تلك المجاميع في العراق أيضا.
غير أن طهران التي تسلك تمارين المكابرة، تارة بإرسال أقمار صناعية توحي بقدراتها الصاروخية وتارة بالتهديد بإزالة إسرائيل عن وجه الأرض، لا يمكن إلا أن تدرك حجم التحوّل الدولي، الذي بدأت تظهره أوروبا، والذي يؤسس لمنحى جديد قد يَعِدُ به مؤتمر وارسو الموعود الشهر المقبل. وإذا ما كان تطور المقاربة الإسرائيلية يقوم على خلفية هذا التحوّل، فإن إيران توحي للمجتمع الدولي بأولوياتها في المنطقة وبما هو ثابت وما هو متحوّل في استراتيجياتها.
ردت إيران على جولة بومبيو في المنطقة عبر إرسال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى العراق. قيل إن الرجل التقى بمرشد الثورة علي خامنئي قبل تلك الزيارة بما أعطى لمهمته بعداً دينيا يتجاوز صفته الدبلوماسية ويسلّحه بمفاعيل رأس الدولة في محادثاته مع منابر العراق.
بقي الرجل خمسة أيام التقى خلالها الرئاسات الثلاث، بالإضافة إلى أغلب زعماء المكونات السياسية العراقية سواء من خلال حضوره في قاعة مجلس النواب أو في مقابلات فردية، كما شملت لقاءاته أيضاً المسيحيين والصابئة والإيزيديين ووجوه مجتمعية من ضمنها شيوخ ووجهاء العشائر العراقية. بدا أنه يجول في محافظة إيرانية ويسعى في لقاءاته مع جلّ أولي القرار إلى تأكيد "خلود" سطوة بلاده على العراق. بدا أيضاً أن طهران توحي لواشنطن بأن العراق أصلٌ في استراتيجية إيران في المنطقة فيما سوريا فرعٌ قابل للبحث. تدرك طهران سقوط ورقة اليمن ويوحي تشدد حزب الله في قيام حكومة في لبنان ترجح كفته أنها ستكون ملاذه الوحيد بعد انسحاب إيران من سوريا الآتي عاجلا أم آجلا.
لم تكن إيران يوماً دولة انتحارية. تعرف طهران بدقة حدود لغتها ومساحة مناوراتها. تدرك حقيقة احتراق أوراقها خارج حدود إيران، وخصوصا في سوريا واليمن. في الشارع في إيران تكررت هتافات تندد بوجود إيران في غزة وسوريا واليمن ولبنان بصفتها ميادين غير متّصلة بالبلد. توحي طهران بأنها قد تضطر للزهد بالعواصم البعيدة لكنها حريصة على استمرار عبثها في العراق. ألم يقل قائل إيراني إن "إيران إمبراطورية عاصمتها بغداد"، فإن سقطت بغداد سقطت إمبراطورية الولي الفقيه.