عمر علي البدوي
هل توشك إيران على أن تتلقى ضربة عسكرية، أو تخوض حربا مفتوحة تكون فيها إسرائيل رأس حربة القوى الدولية والإقليمية المناهضة لطهران؟ أو تنتهي شهور الترقب والانتظار التي كانت تتقلب فيها العلاقات الأميركية الإيرانية على جمر التوجس والتردد، وتبدآن حرباً مدمرة تنضم إلى بقية المناسبات السيئة في أجندة المنطقة.
كل المؤشرات تتزايد بوقوع عمل عسكري واسع وكبير ضد إيران، ينهي أكثر من أربعة عقود من التوتر الذي ظل يخيّم على المنطقة بسبب سلوك طهران وميليشياتها ومشروعها التدميري، في مقابل رفض جيرانها لاستمرارها في هذا النهج الخطير والمقلق.
أقال دونالد ترامب وزير دفاعه مارك إسبر بعد اجتماع عاصف في البيت الأبيض، ثم قام بتسريع سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، ونشر طائرات القاذفات الاستراتيجية “بي 52” وطائرات الشبح، وطلب مشورة حول ضرب موقع نووي على الأراضي الإيرانية، وأرسل وزير خارجيته مايك بومبيو في زيارة عاجلة إلى المنطقة اختلف في تفسير سببها بين التحضير لانتخابات 2024 أو التحضير لضربة عسكرية وشيكة.
لكن، يبدو أن تل أبيب فضّلت هذه المظلة الواسعة من الأفعال العسكرية المتفرّقة التي تقلص بهدوء مخالب إيران وتقلم أظافرها، على أن تكون المواجهة في شكل حرب نظامية، كانت تهدد طهران بأن ساعة انتهائها ستكون بيدها على عكس ساعة انطلاقها، ولذا بدأت إسرائيل في زيادة معدل استهداف التجمّعات الميليشياوية التابعة لإيران على الأراضي السورية، وشرعت في مسلسل الاغتيالات لرموز مسعاها النووي.
ويبدو أن برنامج استهداف مشابها اتخذته إسرائيل لاغتيال زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني حسن نصرالله، اضطره إلى أن يبث كلمة مسجلة لمناصريه، بدل أن تكون مباشرة، بعد أن تزايدت احتمالات التهديد الأمني على حياته، وجرى التخفيف من تنقلاته ووضعه في مخبأ.
سواء كان ذلك تمهيدا لمرحلة مقبلة من المواجهة العسكرية، أو توسيعا لهذا النوع من الحروب غير المنتظمة، فإن درجة سخونة الأجواء ترتفع في المنطقة، ويبدو واضحا أن تل أبيب تحضّرت لهذه المرحلة بتأمين الغطاء الأميركي وإعادة تشبيك علاقاتها مع عواصم في المنطقة على خلفية خصومتها التلقائية مع إيران.
ومن جهة أخرى أعاد، ما يعتقد أنه فرصة مواتية لطهران بوصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن، الأمور إلى نقطة الصفر، حيث يصعب على أي إدارة أميركية أن تتساهل مع إيران أو تلقي لها بطوق نجاة، عبر توحيل واقعها في مستنقع من الخسائر، والشعور العميق بالثأر، والارتهان لتكاليف حفظ ماء الوجه، وحرق مراكب العودة، وتكسير أقدام المناورة والتقاط الأنفاس.
تركة ثقيلة تريد إسرائيل أن تكبّل بها قدمي بايدن في حال استعاد أحلام “فكرة أوبامية غابرة” تظن بإمكانية دفع إيران إلى خطوط الاعتدال وإغرائها بمكاسب الاتفاق والتسويات ذات النفع المتبادل.
احتمالات شن ضربة عسكرية موسعة على إيران تتقلص عند النظر إلى جملة من الأسباب؛ ففي حال فكرت الإدارة الأميركية، الموشكة على الانصراف، في إنقاذ خسارتها بالتورط في حرب مع إيران، ستكون خطيئة مركبة، مع بقاء الوعد بالرد المدمر على أي هجمات منسوبة لإيران ضد أفراد أو مصالح أميركية.
ويبقى أن المنطقة لا تحتمل نشوب حرب جديدة ستكون فيها الخاسر الأكبر. في ظل عجز طهران عن إيذاء الأراضي الأميركية ستختار بطبيعة الحال مواقع من المنطقة في بنك أهدافها القاصرة، وسيجرّ عليها ذلك ويلات دفعة جديدة من الاحتقان والتوتر.
فمن جهة، إسرائيل غير مؤهلة لمواجهة حربية غير معلومة النهاية، مواجهة متروكة لاحتمالات غير محسومة، وتفضل أن تستمر في سياسة الضرب والهرب، لاسيما وأن إيران ستكف عن أي ردة فعل حتى تاريخ العشرين من يناير، موعد حلول المخلص بايدن رئيسا في البيت الأبيض.
كما أن الصبر الاستراتيجي الذي تتخذه إيران ولعبة “الوقت المناسب” مريحة للاستهلاك الدعائي، وتؤجل حقيقة الهشاشة التي تعاني منها طهران وعجزها عن إبداء أي رد فعل مؤثر ووازن، باستثناء الرفع من مستويات التخصيب وتسريع مراحل البرنامج النووي، وهو الأمر الذي يحقق هدف الضربات الإسرائيلية بتوسيع الفجوة بين إيران والإدارة الأميركية المرتقبة، ورفع ثمن الجلوس مجددا على طاولة أي اتفاق نووي متوقع.
تواجه إيران حيرة كبيرة من أمرها، تضرر برنامجها الصاروخي بهذه الحرب الاستنزافية، التي تتكبدها في العراق وسوريا واليمن وأخيرا على أراضيها، في مقابل واقع معيشي واقتصادي يزداد سوءا ولا يمكن إنقاذه بمجرد الإمعان في المواجهة، والحاجة إلى صيغة عادلة، حسب رأيها، للخروج من سندان العقوبات ومطرقة التنازل عن مشروعها، في ظل أن برنامجها الصاروخي ووكلاءها الميليشاويين هما كل ما بقي بين يديها لتراهن عليهما، على أي طاولة للمفاوضات من جهة، وتقاتل بهما من جهة أخرى، في ظل وهن ترسانتها العسكرية وهشاشة ظروفها الاقتصادية.
لا توجد وصفة للانهيار من الداخل أفضل مما تواجهه إيران اليوم، وعندما تقرر واشنطن أو أي من الدول الإقليمية توجيه ضربة عسكرية واسعة أو تخوض حربا مفتوحة، سيكون هذا الواقع هو الأرضية المناسبة لجعلها ضربة قاضية ومدوية تكتب الفصل الأخير لنظام الفوضى والقلق الإقليمي. لكن ردة فعل عمياء ويائسة، يخشى أن يصل شررها وضررها لكل المنطقة، تفرض على الجميع التمهّل والتردد وإعادة النظر قبل أن تدخل المنطقة في نفق جديد مظلم لا أحد يعلم نهايته.