دوا أولاش أرالب
في ظل حكم الرجل الواحد رجب طيب أردوغان، أصبحت تركيا تتكيف مع نوع مميز من الفصام السياسي الذي ولد من الاستبداد ويتّبع في خطاب سياسي تجاوزه الزمن.
وتدفع الأنظمة القمعية المنغلقة المجتمعات لتشكيل سلوكها وفقا لقيم نظامها السياسي عندما ترى تناقضا بينهما.
على المستوى الفردي، يؤدي هذا التناقض بين توقعات الفرد وحقيقة قيمه إلى ما يُعرف بالتنافر المعرفي، وهو مصطلح صاغه عالم النفس الأميركي الشهير ليون فستنغر الذي قال إن هناك ثلاث طرق لمعالجته. يمكنك إما تغيير قيمك لتتناسب مع الواقع، أو تغيير سلوكك لمطابقة قيمك، أو تغيير قيمك وسلوكك.
وتوفّر الأنظمة الديمقراطية التعددية طريقة أسهل لتجاوزهذا التنافر من خلال بدائل مختلفة لتحديث القيم الاجتماعية والسياسية بما يتماشى مع الحقائق السياسية. لكن الأنظمة القمعية تكتفي بالقسر والإكراه.
ومع ذلك، يتعارض هذا الإكراه مع طبيعة المجتمعات البشرية التي تتغير وتتأقلم باستمرار. ويستمر الفصام الذي يولده هذا الوضع حتى يُكمل النظام مرحلة انهياره، كما رأينا في مثال ألمانيا الشرقية وبقية الكتلة الشرقية قبل سقوط جدار برلين.
التحركات التراجعية الأخيرة في تركيا من تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، والقيود المفروضة على وسائل التواصل الاجتماعي، والدفع للانسحاب من اتفاقية إسطنبول، والمطالبة المتزايدة بالخلافة الإسلامية إلى انفصال كبير عن الواقع الذي يعيش فيه الأتراك.
يعيش نظام أردوغان حلما إسلاميا منذ الستينات بعيدا عن معاناة مواطنيه اليومية. عند هذه النقطة، يصعب الاستيقاظ على الواقع في مرحلة يواجه فيها الاقتصاد التركي تباطؤا لا يمكن تجنّبه بعد أن أثر على البلاد على مستويات مختلفة. ومن بين المشاكل التي يواجهها المجتمع التركي، سجب التعامل مع بطالة الشباب، وتراجع قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية، وديون الشركات المتزايدة. ولا تعتبر سياسات البنك المركزي التركي فعّالة مع بعث مشاريع البنية التحتية باهظة الثمن وغير الضرورية وأمواله العامة التي تدار خلف الستار.
أضف إلى ذلك عدم اليقين العالمي الناجم عن جائحة كوفيد-19 وسترى عاصفة جاهزة لضرب النظام بحلول فصل الخريف.
لن يرغب أردوغان في الاعتراف بأنه زعيم سياسي ضعيف، وهو ما حرص على إخفائه منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016. وللبقاء على رأس السلطة، يجب عليه مضاعفة الاعتماد على تحالفه مع القوميين المتطرفين وأتباعهم في الجهاز العسكري التركي.
ولن تؤدي حملة أردوغان الصارمة ضد رؤساء البلديات الأكراد إلا إلى نبذ أكراد تركيا وتوجيههم ضد الحكومة المركزية في أنقرة. لقد ابتعد جزء كبير من الشباب عن حزب العدالة والتنمية بالفعل، وهو ما برز أكثر خلال هجمة التعليقات السلبية على بث مباشر جمع الرئيس بمجموعة منتقاة من المراهقين في سن السابعة عشر.
وتتضح حالة الفصام في السياسة الداخلية عبر مجموعة من الأهداف العدوانية في السياسة الخارجية التركية. حيث تعزل البلاد نفسها عن حلفائها في الناتو والمنظمات الغربية الأخرى، مع تقلّص احتمال انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
ويقترف تحالف أردوغان القومي المتشدد سلسلة من الأخطاء الفادحة في السياسة الخارجية في سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط. وهي سياسات عدوانية قصيرة النظر تضع أنقرة في خلاف مع اليونان وقبرص ومع مصر وفرنسا وحتى مع شريكها المفترض روسيا.
إن التحالف الأوراسي المتخيل غير موجود، لكن المتطرفين لا يمانعون. إذ يسمح ذلك لأردوغان ووسائل الإعلام الرئيسية التي يسيطر عليها أقاربه بصياغة نسخة كاريكاتورية من الدعاية العثمانية الجديدة لتعزيز قاعدة ناخبيه.
ويبدو هذا التكتيك ناجحا بين كبار السن غير المتعلّمين في منطقة الأناضول المحافظة. لكنها دفعت العديد من جيران تركيا بعيدا عنها أيضا. فعلى سبيل المثال، يتخلى الكثيرون في الشرق الأوسط عن المسلسلات التركية، التي كانت ذات شعبية كبيرة في المنطقة، ويعتبرونها أداة للإمبريالية الثقافية التركية.
وبالعودة إلى نظرية ليون فستنغر، نرى أن الفجوة بين الحقائق والتوقعات في ظل نظام أردوغان واسعة بحيث يصعب سدّها من خلال إعادة توجيه للسياسة.
ويعتبر الانهيار مهرب نظام أردوغان الوحيد من هذا التنافر المعرفي الشديد. وقد يكون موت السياسة في تركيا وشيكا. ومن المفارقات أن الحقائق الاقتصادية والمجتمعية القاسية ستكون الخلاص حيث يفقد نظام أردوغان قوته ويفتقر إلى الطاقة اللازمة للضغط على الزناد. فلنأمل فقط أن تلحق الحقيقة الديمقراطية قبل أن تسحق الأحلام الشمولية كل ما تبقى من المشهد السياسي التركي.