بازبدە بۆ ناوەڕۆکی سەرەکی

وباء من نوع آخر: الهويات الجماعية

ميليشيا ”حزب الله“
AvaToday caption
صارت الناس اليوم تتمسك بتقاليدها وهويتها الجماعية، حتى لو على حساب تقدمها مهنيا، وصار يبدو أن ”احترام“ الآخرين للهوية الجماعية أهم بكثير من المصلحة والنجاح فرديا
posted onJanuary 26, 2021
noبۆچوون

حسين عبدالحسين

يقول عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي أن في السنوات الأولى للدعوة الإسلامية، لم يدخل الإسلام إلا نفر قليل من المكيين، فالإسلام كان ثورة على التقاليد والعادات. ويتابع الوردي: لكنك إن سألت أي من ملايين المسلمين اليوم عمّا كان سيفعله لو كان في مكة في أول أيام الإسلام، لجزم بأنه كان سيكون أول الملتحقين بالرسول. يستخدم الوردي هذا المثال ليشير إلى الانفصال بين كيف يخال المرء نفسه منصفا، عادلا، وصاحب عقل مستقل يقرر بموجبه مواقفه ومبادئه — حتى لو افترقت عن الجماعة — والواقع، وهو أن المسلمين الأوائل لم يقبلوا الإسلام فرادى، بل دخلوه أفواجا، غالبا بمبايعة رؤساء العشائر، كل عن عشيرته، التي أدخلها معه في الدين الجديد.

الهوية الجماعية مشكلة لأنها تستبدل العقل الفردي برأي الجماعة، والأخيرة هي تنظيم مجتمعي بدائي حاربته الأديان، فتعاليم المسيحية تعد بدينونة فردية، ومثلها يوم الدين في الإسلام، ”يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه“. ثم كانت الثورة الصناعية في أوروبا، وراح رأس المال يبحث عن المهارات الفردية لتوظيفها في مصانعه، وراح يكافئ كل عامل على مهاراته، فأعطت القوة المالية الأفراد استقلالية عن عشائرهم وقبائلهم، التي كان يتزعمها لوردات يقسمون الولاء للملك. ولأنه صار لكل فرد استقلالية، صار له صوت، ولم يعد ولاء زعماء العشائر للملك ينفع، فقامت الديموقراطية، المبنية على اختيار الفرد دولته بشكل يتناسب ومصالحه المادية ويصون حريته في العيش والعمل والتعبير عن الرأي.

لكن الرأسمالية خلقت عكسها، فالعمّال رأوا مصلحة مشتركة في تنظيم أنفسهم في جماعات لمواجهة تسلط رأس المال عليهم، فصار اسمها اتحادات عمالية. ثم أوغل بعض علماء الاقتصاد والاجتماع في الانحياز للاتحادات العمالية، فكانت الاشتراكية، ثم كان صنف الاشتراكية الأكثر تطرفا، أي الشيوعية.

على أن الاستقلالية التي منحها الراتب للموظف رافقتها وحدانية اجتماعية، وهو ما أجبر الموظفين على الموازنة بين فرديتهم وبين انخراطهم في شبكات مجتمعية تتألف من أفراد يشبهونهم، وصارت هذه الشبكات فرق ومذاهب وأحزاب، وهو ما قوّض العقل الفردي مجددا. وسهّلت تقنية التواصل الاجتماعي تشكيل رأي جماعي، وتسويقه، وغلبته على الرأي الفردي المستقل.

مشكلة الرأي الجماعي هي في إمكانية انحرافه، فمعايير الصح والخطأ هي اصطلاحات جماعية، واذا ما اصطلحت الجماعة على باطل، يصبح الباطل حقا، ويصبح الفرد الداعي إلى الحق نبيا ملعونا في عشيرته، وهذه سيرة كل الأنبياء التي تقصها الأديان على أتباعها.

ويحدث أحيانا أن تتصدى لجماعة ضالة جماعة راشدة، لكن الضالين يصوّرون الراشدين على أنهم متآمرون أعداء. هكذا صورت النازية محاولة العالم إعادة ملايين الألمان الى رشدهم وثنيهم عن أفكارهم العنصرية الإجرامية، على أنها مؤامرة دولية ضد ”الأمة الألمانية“، لا صراع حول المبادئ والأفكار. وهكذا الإسلام السياسي، الذي يقوم حكامه بتشتيت انتباه محكوميهم بإلقاء اللائمة في فساد الحكم وفشله على الشعوب الأخرى، فتصبح إيران الفاشلة المفلسة هي الفئة الناجية، ويصبح باقي العالم المتقدم والمزدهر الفئة الضالة.

أما عقل الفرد وضميره، فأكثر قدرة على التمييز بين الخير والشر، والبحث عن المصلحة حسبما تمليها غريزة البقاء. وعلى مدى القرن الماضي، انتشرت ثقافة الثناء على سعي الفرد للعلم وللنجاح في العمل. هكذا، حاول الأفراد إبقاء هويتهم الجماعية في منازلهم أو أماكن عبادتهم، حتى لا تعيق طموحاتهم ونجاحاتهم الفردية في الحياة والعمل.

في العقدين الأخيرين، تراجعت ثقافة تمجيد الفردية أمام الهويات الجماعية لأسباب لا نعرفها بعد، وهو ما دفع فرانسيس فوكوياما الى نشر كتابه ”هوية“، الذي قال فيه أنه على عكس الاعتقاد السائد بأن الفرد يبحث عن مصلحته، صارت الناس اليوم تتمسك بتقاليدها وهويتها الجماعية، حتى لو على حساب تقدمها مهنيا، وصار يبدو أن ”احترام“ الآخرين للهوية الجماعية أهم بكثير من المصلحة والنجاح فرديا. بكلام آخر، صارت ”الكرامة“، وهي فكرة غير مادية، أكثر أهمية من المصالح المادية، كالمدخول المالي ومستوى المعيشة.

وهكذا في لبنان، حيث يؤذي وجود ميليشيا ”حزب الله“ وحروبه اللامنتهية اقتصاد لبنان، ما يؤدي الى تدهور المداخيل الفردية ومستوى المعيشة لكل لبناني. لكن مؤيدي ”حزب الله“، وغالبيتهم من المسلمين الشيعة، يتمسكون بالميليشيا على اعتبارها ”شرفهم“ و“كرامتهم“، وكأن العيش بشظف لا يدخل في حسابات ”الشرف“ أو ”الكرامة“. هكذا، بعد حرب 2006 التي حولت أحياء شيعة لبنان الى ركام، قام ”حزب الله“ بتحريض شيعته ضد رئيس الحكومة وجماعته من السنة، وهو ما أدى إلى تعزيز الهوية الجماعية عند الشيعة، وتشتيت انتباههم عن المشكلة، وامتصاص غضبهم ضد الحرب والحزب.

وهكذا في أميركا أيضا، حيث نشر عالم الاجتماع جوناثان ميتزل كتابه ”الموت من البياض: كيف تقتل سياسة الكراهية العنصرية قلب أميركا“، وتضمن مقابلات مع أميركيين بيض يحتاجون لعلاجات طبية لكنهم يرفضون قانون الرعاية الصحية الحكومية لأنهم ”يفضلون الموت على أن يفيد غير البيض ومثليي الجنس من الرعاية الحكومية“.

هذه هي الهوية الجماعية التي امتطى موجتها الرئيس السابق دونالد ترامب، فحرّض بعض البيض من المسيحيين المحافظين ضد غير البيض والعولمة، مع أن ترامب لا يعيش وفق التعاليم المسيحية، ومصالحه التجارية في قلب العولمة. مع ذلك، نجح ترامب في تحويل مناصريه الى عشيرة تبنت مبادئ عكس ثقافتها، حتى أدى انحرافها إلى غزوها مبنى الكونغرس، وإنزال العلم الأميركي عنه، وهو العلم الذي تضعه عشيرة ترامب في مرتبة قداسة لا يعلو عليها إلا الإنجيل نفسه.

الهوية الجماعية مشكلة أممية، بل وباء عالمي، تقوّض الدول بقضائها على الرأي المستقل للأفراد الساعين الى مصالحهم، وتستبدلهم بجماعات تتحول الى غوغاء في أيدي العقائد المتطرفة والسياسيين الشعبويين. أميركا نجت في هذه الجولة، لكن هوياتها الجماعية، عند الديموقراطيين الحاكمين اليوم كما الجمهوريين المعارضين، ما تزال تشكل خطرا على مستقبل الجمهورية، وهو خطر لا يقلصه الا العلم، والثقافة، والمطالعة، والحوار الهادئ بعيدا عن الصراخ.