د. ماجد السامرائي
في الدول المستقرة مهما كانت نظمها السياسية لا تصبح قضية ترشيح هذا الوزير أو ذاك مدعاة للارتباك والفوضى. فرئيس الوزراء المكلف هو الذي يختار وزراءه بالتشاور مع القوى والأحزاب أو رئيس الدولة إن كان النظام رئاسيا، ولكن في العراق انتخابات شابها التزوير وحكومات يتعطل تشكيلها لأشهر بسبب فقدان البرامج السياسية وهيمنة اتفاقات المصالح والمحاصصات الحزبية والطائفية.
فهل يمكن تصديق أن الاختلاف حول ترشيح اسم وزير أو وزيرين في كابينة حكومة عادل عبدالمهدي يقود إلى هذا الاضطراب والفوضى داخل البرلمان وخارجه، ويعطل الحياة السياسية للنظام إلى درجة تحوّل اسم فالح الفياض إلى عنوان لأزمة داخل شركة تقاسم صفقات الحكم بين الكتلتين الشيعيتين، الفتح وسائرون، وهما اللتان جاءتا بعادل عبدالمهدي كرئيس للوزراء، بعد استحالة عودة حزب الدعوة إلى السلطة.
هناك تبريرات إعلامية لهذه المعركة السياسية. مقتدى الصدر يعتقد أنه قد حصلت ضده خديعة متفق عليها بين عادل عبدالمهدي وهادي العامري بالخروج على التفاهمات التي وُضعت وحددت مواصفات الوزير المرشح بأن لا يكون حزبياً ولا مسؤولا حكومياً سابقا، وأن هذه المسطرة يتم تطبيقها من قبل رئيس الوزراء على كتلة “الإصلاح” ويتم التلاعب بها مع كتلة “البناء”، ولهذا يرفض الصدر توزير فالح الفياض للداخلية وكذلك مرشح الدفاع فيصل الجربا ولكن القصة أعمق من ذلك، هي صراع بين إرادتين داخل الكتل السياسية الشيعية:
الأولى عراقية الهوى والثانية إيرانية الولاء. الأولى تتمثل بمقتدى الصدر ومن حوله زعامات ائتلاف “الإصلاح” الذي يرأسه الآن عمار الحكيم، وتحمل هذه الكتلة رغبات إصلاحية لتلبية إرادة الجمهور العراقي الناقم على سلطة الأحزاب والعمل على استبعاد الفاسدين الذين تسللوا إلى البرلمان من الوصول إلى الوزارات.
حاول الصدر أن يعبر عن صدقية دعواه بعدم ترشيح أحد للمناصب الحكومية رغم أن ما حصل هو تقاسم للحصص بين الكتلتين الكبيرتين “البناء والإصلاح” بعد انتفاء تحقق الكتلة الأكبر، وهذه الحالة لم تحصل بالصدفة وإنما هي تدبير من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، مسؤول العملية السياسية في العراق نيابة عن ولي الفقيه في طهران، الذي اشتغل على بعض من يدّعون تمثيل سنّة العراق وتلبية رغباتهم الذاتية في السلطة والمال وتم ضمهم إلى الكتلة النيابية الشيعية.
ذلك أنه حتى التجار منهم هم بحاجة إلى تشغيل تجارتهم في العراق المنتظر لحملة إعادة الإعمار، كما أن بعض الوجهاء السنة الجدد ممن يضعون العمامات السنية البيضاء على رؤوسهم وجدوا أنفسهم بحاجة إلى تحسين حالتهم الوجاهية والمصلحية فاندفعوا يقبّلون رأس ولي الفقيه في طهران في تحدّ واضح لمشاعر العراقيين. فنظام ولي الفقيه يتحمل مسؤولية تاريخية في التسبب بقتل أكثر من مليون من الشباب العراقي في حرب الثماني سنوات أواخر القرن الماضي، وفيما حصل خلال السنوات الخمس عشرة الماضية من فوضى الاحتراب الطائفي وقتل وتهجير مئات الألوف من العرب السنة.
لقد نافق من يسمي نفسه مفتي أهل السنة في العراق، مهدي الصميدعي، حكام إيران وولي الفقيه خامنئي خلال زيارته لطهران بمناسبة عيد “الثورة الإيرانية” في فبراير الماضي، وأعلن ولاءه له حين قال “كان للثورة فضل كبير في حفظ الشيعة في العالم وجعلهم تحت راية وقيادة ومرجعية واحدة وتحاول الآن توسيع هذا الحفظ لباقي المذاهب وتوحيد الأمة الإسلامية”.
وكان من الطبيعي أن يزوره قاسم سليماني في مقره بجامع أم الطبول ببغداد قبل يومين، ويعلن دعمه له ويتم تمرير صوره التذكارية بوسائل الإعلام وإلى جانبهما نائب رئيس هيئة الحشد أبومهدي المهندس ويهديه سيفا يرمز إلى سيف علي بن أبي طالب، وكأن إيران هي مرجعية الإمام علي وليس العراق العربي ومركز التشيع العالمي، وليقول الجنرال سليماني للعراقيين: ها نحن قد ختمنا دائرة تطويق العراق سياسيا بالهيمنة على سنته وشيعته وأكراده، ولدينا الآن القوة العسكرية الميليشياوية الداعمة لهذه الهيمنة.
يحاول الجنرال سليماني تمرير رسائل إيرانية توحي بتأكيد هيمنتها على أركان العملية السياسية ببغداد، في تصرف يتجاوز الحدود الدبلوماسية مع أنها تواجه صعوبات لوجستية حتى في تفصيلات التشكيلة الحكومية. فهي في فرضها لاسم هذا المنصب الحكومي أو ذاك إنما تتدخل بشكل سافر في تفصيلات الحكم وتهين بصورة مباشرة شخصية رئيس الوزراء الجديد عبدالمهدي الذي جاء باندفاع عال بأنه مستقل وقادر على تشكيل كابينته الحكومية بسلاسة، لكنه رضخ بصورة سريعة لإرادتها كما يصرح جميع النواب والسياسيين العراقيين الذي سئموا هذا التدخل المهين بالشأن العراقي، ووقع في فخها الذي منع عنه هامش المناورة بالاستقلالية الحزبية، التي لا تعني شيئاً في ظل الظروف القاسية التي يمر بها النظام الإيراني داخليا.
ولهذا يعتقد حكامه ضرورة الإعلان عن فعالية قبضة طهران السياسية على الحكم في العراق، وهذا يتطلب منها الكشف عن مخزوناتها من رصيد الموالين لها في العراق ومن بينها اللعب بالورقة الطائفية مجددا. وتحرص في كل يوم على إيصال رسالة للعراقيين مفادها أن القبضة الإيرانية مستمرة ولا يجب أن يتوهم السياسيون الحالمون بالاستقلالية عن طريق فتح آفاق لها بالتشكيلة الحكومية الحالية أنهم قادرون على تحقيق ذلك، فالفساد والموالاة لطهران عنصران يكمل أحدهما الآخر.
الفاسدون يجدون في طهران ظهيراً لضعفهم أمام الجمهور العراقي الغاضب، ومثال ذلك الإصرار على اسم فالح الفياض كوزير للداخلية، علما بأن إيران لديها قائمة طويلة من الموالين من غير الفياض، لكنه ليّ للإرادات وإشعار الكتلة النيابية الإصلاح بمنعها من تلمس طريق الاستقلالية العراقية. في العراق من الصعب أن تعثر على سياسي من داخل العملية السياسية يمكنك أن تدافع عنه بحس وطني دون أن يخذلك منذ الخطوات الأولى بارتهانه للإرادة الخارجية وفقدانه لبوصلة المشروع الوطني المستقل.
كاتب عراقي