بازبدە بۆ ناوەڕۆکی سەرەکی

الأوبئة في عيون الفنانين عبر العصور

لوحة الطاعون الأسود
AvaToday caption
ورغم ظهور قصص “ديكاميرون” لبوكاتشو تغنّت بانتصار الحب، فإن المجتمعات الغربية ظلت مهووسة بالحداد وبنهاية العالم، وكان لذلك أثره على الفنانين أيضا، فقد صار الموت الفظيع من ثيماتهم المفضلة
posted onMay 31, 2020
noبۆچوون

أبو بكر العيادي

 عرف الإنسان الأوبئة منذ العصر البرونزي، وقد ورد ذكرها في بعض الكتب المقدسة وإلياذة هوميروس وتاريخ توسيديديس وفي بعض المخطوطات الرومانية،  كما تركت فنون النحت والخزف والفسيفساء في العصور القديمة صورا عن أجساد محطمة، شوهت الأمراض ملامحها، وحفرت فيها آثارا مروّعة.

ولكن أكثر الصور روعا هي تلك التي تعود إلى العصر الوسيط، وكانت شاهدة على الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في أواسط القرن الرابع عشر، فبعد تقلبات مناخية نجمت عنها مجاعات زادتها حرب المئة عام حدّة، ظهر هذا الوباء في آسيا الوسطى ثم انتقل إلى أوروبا وحصد الأرواح بمئات الآلاف. وكان من بين الضحايا جيل من الرسامين المجدّدين، مثل أمبروجو لورنزيتي وأخيه بييترو.

أما الناجون فقد خالطتهم أنفاس الموت، وولّدت فيهم تشاؤما لازبا، فكانت الثيمات تحوم حول الموت، مثل “حديث الموتى الثلاثة والأحياء الثلاثة”، و”عذراء الرحمة”. فبينما كان الموت يحصد الأرواح، والكنيسة تستغل ذلك لإحكام قبضتها على المؤمنين، كان الفنانون يكشفون عن الدمار الذي ألحقته الأوبئة الكبرى بالأجساد والأذهان، يتجلّى ذلك في لوحة “قبلة الموت” لهانس بالدونغ، و”انتصار الموت” ليان بروغل القديم. وهي أعمال ذات واقعية فجّة في عمومها ترسم المرضى والمحتضرين في أبشع صورة.

ورغم ظهور قصص “ديكاميرون” لبوكاتشو تغنّت بانتصار الحب، فإن المجتمعات الغربية ظلت مهووسة بالحداد وبنهاية العالم، وكان لذلك أثره على الفنانين أيضا، فقد صار الموت الفظيع من ثيماتهم المفضلة، نلمس ذلك في جداريات ماتياس غرونفالد التي أنجزها لكنيسة إيسنهايم.

مثلما نلمسه في فن ما بعد النهضة، حيث تناول الفنانون تلك الثيمة في أعمال ذات خلفية تاريخية أو دينية تسرد مآسيَ صحية، كما في لوحة نيكولا بوسّان “طاعون أشدود” الذي يصوّر الطاعون الذي أصاب الفيليستان (الشعب الذي كان يعيش في فلسطين التاريخية)، أو في لوحة جاك لوي دفيد الذي صوّر القديس روش يطلب من العذراء أن تشفع لضحايا الوباء الذي ضرب مرسيليا في مطلع القرن الثامن عشر.

أما إسبانيا الباروكية في عصرها الذهبي فكانت تميل إلى الاستعارات الأخلاقية، وتحضّ على التوبة والتكفير عن الخطايا، أثناء الوباء الإشبيلي في أربعينات القرن السابع عشر، حيث عرض خوان دي فالديس لِيالْ في لوحة “نهاية المجد الأرضي” جثتين متحللتين لأسقف وفارس، بينما حذّر بدرو دي كمبروبين بَسّانو في لوحة “الفارس والموت” من الأمراض التناسلية.

وتواصلت الأليغوريا طوال القرن التاسع عشر، خصوصا لدى الرمزيين، حيث طرح أرنولد بوكلين رؤيته الخاصة للطاعون، فرسمه ممتطيا صهوة تنّين ينشر الرعب والدمار في المشهد القروسطي، بينما تمثّله إدوارد مونك في “بورتريه ذاتي زمن الإنفلوانزا الإسبانية”، تلك التي ظهرت في الولايات المتحدة وانتشرت في أوروبا لتحصد أرواحا أنهكتها الحرب العالمية الأولى، مخلّفة نحو خمسين مليون قتيل، من بينهم غيّوم أبولّينير وإيغون شيله.

وبعدها بعقود من السنين، ظهر فايروس خطير نشر الرعب عبر العالم، هو الإيدز. وقد كان له وقع شديد في نفوس عدد من رموز الفن المعاصر، وهو ما تناولته الناقدة إليزابيت ليبوفيسي في كتاب “ما فعله بي الإيدز – الفن والفعالية في نهاية القرن العشرين” (والفعالية هنا هي مذهب خلقي يُعنى بمتطلبات الحياة الفعلية ومنجزاتها أكثر من عنايته بالمبادئ النظرية)، وبيّنت فيه كيف تجنّد الفنانون عن طريق أعمالهم لحشد قوى المجتمع لأجل الضغط على السلطات العامة، وتوجيه اهتمامها نحو علاج المصابين ووضع سياسة وقائية.

وقد ساهمت أعمال سير ذاتية أحيانا وشهادات واقعية في توعية المجتمع وحثّ الحكومات على اتخاذ ما يلزم من إجراءات وقائية ضد جائحة نهاية القرن، نذكر من بينها “أنشودة الإدمان الجنسي 1982-1995” للأميركية نان غولدين، وهي صور فوتوغرافية تسرد فيها تجربتَها الذاتية المطبوعة بعشق الحياة بغير ضابط، وتدهورَ صحتها نتيجة هذا الفايروس.

ومن بين المناضلين في هذا الباب، نذكر أيضا النحاتة الأميركية زوي ليونارد، وكانت أدانت الميز الذي مارسته سلطات بلادها ضد السود والفقراء في مجال الوقاية والعلاج. وما زال نصها “أريد رئيسا” الذي كتبته عام 1992 ماثلا في حيّ تشيلسي بنيويورك.

كذلك الفرنسي فابريس هيدر الذي رسم في مطلع الألفية جدارية “بلا حرج” في معهد باستور للحثّ على ضرورة تشجيع البحوث الطبية لمقاومة الفايروسات. وأنجز في حديقة لافيلات بباريس بساطا من مربعات خزفية أهداها إلى أرواح ضحايا الإيدز.

والكاميروني بارتيليمي طوغو الذي أنجز مزهريات ضخمة تزيّنها رسوم تحيّي أرواح ضحايا وباء إيبولا، وكان عرضها في مركز بومبيدو بالعاصمة الفرنسية، وقد استوحى مزهرياته من الخلايا المصابة، وأرادها دعوة إلى مشاركة الأفارقة آلامهم ومساعدتهم على تخطي تلك الأزمة الصحية.

وما من شكّ أن الأيام القادمة، سوف تفرز أعمالا عن كورونا، هذا الوباء الذي فاق كل الأوبئة حتى الآن.

كاتب تونس