لا حاجة إلى الإقرار بأنّ نقد الأدب، ولاسيما نوع الرواية الحديث، بات يواكب الأدب، منذ ظهوره أواخر القرن السابع عشر، ومن الكتابات النقدية ما سعت إلى الإضاءة على جانب من النوع الروائي دون آخر، وبأسلوب يكاد يكون أدبيا، عنيتُ به عمل الكاتب الارجنتيني ريكاردو بيجيليا، بعنوان "القارئ الأخير" والذي يعالج فيه ظاهرة القارئ، من حيث أنها إحدى الشخصيات النموذجية الأكثر حضورا في كثير من الروايات الأجنبية.
غير أنّ الوجهة التي التزمها الكاتب كانت أقرب ما تكون إلى القارئ المحلّل والشغوف بالفن الروائي، من دون أن يحرّك أنملة عن خطّ موضوعه الأثير، عنيتُ موضوع صوَر شخصيات القرّاء النموذجيين في الرواية الغربية، وليس من الوجهة النقدية التي التزمها بعض نقّاد الرواية السيميائيين ممن يعتبرون قارئ الرواية شريكًا في تأويلها وبناء دلالاتها الخافية، من خارجها بالطبع، على نحو ما فعل أومبرتو إيكو في كتابه "القارئ في الحكاية"، والذي لم يشر اليه الكاتب الأرجنتيني "بيجيليا" على الرغم من أنّ شهرة "إيكو" روائيا وإشكاليا في كتابته الروائية توازي شهرته في النقد السردي المعاصر.
في مدخل الكتاب (ص:9-16) يروي الكاتب قصة لقائه بأحدهم يدعى "راسّل"، في حيّ "فلورس" من أحياء بونيس آيرس، ويتّضح من الحوار والتعليقات وشذرات الوصف المتفرقة أنّ هذا الشخص مهووس ببناء المجسّمات (الماكيت)، وأنه بنى مجسّما لمدينة بوينس آيرس، وراح يشرح للزائر الراوي تفاصيل المدينة وأخبارها من علُ. ولا تكاد الزيارة تنقضي حتّى ندرك من الحكاية "أنّ الفنّ إنما هو تصغير للعالم" وأنّ المتأمّل فيه هو القارئ، وأنّ خريطة المدينة إن هي إلاّ تعيين موجز للواقع الذي يستمدّ الفنّ منه موضوعاته وأشكاله. وهكذا، عاينّا الكاتب بيجيليا، وهو يقدّم لنا أهمّ مصطلحاته في قالب قصصي مشوّق.
ومن ثمّ ينتقل الكاتب إلى إعادة تعريف القارئ، ويجري جولة بانورامية لأهمّ مقولات الكتّاب الروائيين، من أمثال شكسبير، وثرفانتس، وبريخت، وغيرهم، فيكتشف انّ لهذا القارئ الذي يستجلي ملامحه الحديثة عبر الروايات الشهيرة وكتابات الأدباء، سمات كثيرة؛ فهو القارئ-الأعمى الذي فقد بصره، نظير بورخيس، في أثناء القراءة، وبسبب الإفراط فيها، وهو القارئ الأرِق، والمدمن على القراءة، والمريض بها، وهو القارئ المتامّل والرؤيويّ والفرداويّ وسط جماعته، والقارئ التائه وسط بحار من المعلومات، في حين أنّ كلّ نص هو تخييل محض.
وبعد ذلك، يمضي الكاتب بالقارئ إلى "قصة حول كافكا" (ص:39-79)، وفيها يروي، استنادا إلى دراساته حول سيرة حياة كافكا، كبف أنّ الأخير جعل فيليس باور، قريبة ماكس برود، قارئته المثالية وناسخة لأعماله في آن. حتّى ليمكن القول إنّ المرأة، لدى كافكا، لا ترقى إلى مكانة المعشوقة أو الملهمة بجمالها، بقدر ما تكون "المرأة الناسخة، قارئة تعيش لتنسخ نصوصه كأنها نصوصُها ذاتها" (ص:67)
في المبحث الثالث بعنوان "قرّاء متخيّلون" (ص:81-107) يتناول الكاتب أصناف الشخصيات النموذجية في الروايات الغربية، والتي تدلّ سماتهم وتصرّفاتهم على كونهم "قرّاء"، إلى جانب أدوارهم الأساسية في الحبكة القصصية العامة. فعلى سبيل المثال، تبدو لنا شخصية "دوبين"، في إحدى قصص إدغار آلان بو البوليسية، على قدر من الهوَس بالكتب وقراءته لها، حتّى ليقرّ الراوي "بسعة قراءات (الأخير) فوق العادية" (ص:81)، علما أنّ دوبين هو التحرّي السرّي الذي يتقصّى الشخصيات ويبحث في السجلاّت ويقارن بين العلامات المختلفة والمتناقضة توصلا إلى كشف الحقيقة.
واللافت في شخصية التحرّي القارىء، على ما يقول الكاتب بيجيليا، أنه فرداويّ، يحيا في أماكن غريبة، وينعزل عن الناس، ويتجنّب الحشود، على حدّ ما يصفه "ألان بو" في قصّته "رجل الحشود"، إذ يقول: "كنتُ أشعر باهتمام صاف، لكنّه طاغ، بكلّ ما يحيط بي. بسيجارة بين شفتين، وجريدة على ركبتيْن، كنتُ أزجي وقتي في أغلب الظهيرة... وأنا أنظر ناحية الشارع عبر زجاجٍ مشبّر بالدخان" (ص:87)
لعلّ هذه السمات ما يناسب القارئ المثالي، يسقطها الكاتب على شخصية التحرّي "دوبين" حينا، وعلى شخصية "مارلو" المحقق التي ابتكرها الروائي الأميركي وكاتب سيناريوات الأفلام البوليسية "ريمون تشاندلر"، حينا آخر، ويجعله يستشهد بأبيات من تي. إس. إيليوت، ويبدي رأيه في موقف الشاعر من النساء: "إنها من نشيد الحبّ لجي ألفريد بروفروك. وله بيت آخر: "في الغرفة، تروح النساء وتجيء/ يتحدّثن عن مايكل أنجلو. هل يوحي لك بشيء، يا سيّد؟ ...أفكّر الشيء نفسه بالضبط. ومع ذلك، أشعر بإعجاب كبير حيال تي. إس. إليوت" (ص:93)
ومثل ذلك اعتداد شخص التحرّي بمعارفه الأدبية، وبقراءاته الكثيرة التي تتعدّى حدود لغته (الإنجليزية) إلى اللغة الفرنسية ونماذجها وأهمّ كتّابها، إذ يقول: "إتّفقنا - قال ويد، وهو يجلس - أنتَ، بالتّالي، قرأتَ لفلوبير، وذلك جعل منك مثقّفًا، ناقدًا، عالمًا في العالم الأدبي". (ص:106)
وبالمقابل، تجد الشخصيات النسوية لديه، ولا سيّما الثريّات منهنّ، ميّالات إلى قتل أزواجهنّ، على غرار شخصية "كارمن ستيرنوود" في رواية "السبات العميق"، وإليزابيت برايت ميردوك في رواية "النافذة الكبرى". وفي السياق نفسه، تأتي رواية "رجال بلا نساء" للكاتب إرنست همنغواي.
وفي ما يلي، أي في المبحث الرابع (ص:109-140)، يتناول الكاتب شخصية سياسية باتت رمزية (أيقونية بلغة السيمياء) عنيت بها إرنيستو غيفارا، ويرى إليها من منظار كونها شخصية قارئة بامتياز، منذ الفتوة، وإلى حمأة الصراع المسلّح الذي كان يخوضه، إلى جانب فيديل كاسترو، في كوبا، ومرورا بتولّيه مهمات في البلد المحرّر لتوّه، وحتى قبيل موته. كانت لا تزال القراءة الأدبية السبيل الأكثر فعالية للتلقين ولبناء شخصيّته وتحديد مواقفه من الحياة والموت. ولطالما أقرّ غيفارا بأنه سعى، من قراءته ثرفانتس، وجاك لندن، وغيرهما إلى استخلاص معنى الصراع الذي كان يخوضه، أو إلى استشراف سلوك مثالي يحسن به تبنّيه في المستقبل. وبعد، ألا تكون "القراءة (المطالعة) الأدبية حلّت محلّ التعليم الديني في تشييد أخلاق الشخصية"؟ (ص:111)
ثمّ ألا يمكن تعميم الخلاصات التي انتهى إليها غيفارا، بفضل شغفه بالمطالعة الأدبية، في إمكان استيعاب القارئ نماذج الشخصيات، وسلوكاتها، وقيَمها، وأصناف الحيوات التي قد يحياها المرء في مراحل عمره المختلفة، هذا إن لم يتحْ له أن يحيا في أوساط طبيعية صاخبة ومتنوّعة؟
يواصل الكاتب تعداد أمثلته المفحمة على ظاهرته المكتشفة، عنيتُ الشخصيات القرّاء، سواء في الأدب الروائي، أو في الواقع. فيعرض لشخصية آنا كارنين، في الرواية المعروفة لليون تولستوي، ليسلّط الضوء على آلية التماثل بين شخص القارئ والنص المقروء، ويكشف عن دواعي التأثّر وسرعته وإمكان فعاليته ونقل النماذج من النص إلى النفس.
وهذا ما يعبّر عنه سارتر تعبيرا دقيقا، إذ يقول: "لماذا نقرأ روايات؟ ثمة شيء مفتقد في حياة الإنسان الذي يقرأ، وهذا بالتحديد ما يبحث عنه في الكتاب. إنّ المغزى في حياته، هذه الحياة التي بالنسبة إلى الجميع سيّئة البناء، سيّئة العيشة، مُستلبة، منهوبة، مخدوعة، مزيّفة، لكنْ، حول هذه الحياة في الوقت ذاته، يعرف من يعيشها جيّدا أنّ ثمة شيئا آخر" (ص:145)
"القارئ الأخير" ليس الكتاب الأخير للكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجيليا، أحد تلامذة الكاتب الكبير بورخيس، إذ له العديد من الروايات، من مثل: تنفّس اصطناعي، المدينة الغائبة، مال محروق، الدريئة المعتمة، من أجل إيدا براون، مثلما له العديد من المجموعات القصصية أهمها: الاجتياح، الرقم المزيّف، الحبس المؤبّد، عازف البيانو، إلى كتابات نقدية أخرى.