مصطفى أمين عامر
يتبنى نظام ولاية الفقيه في إيران منذ قيامه عام 1979م أيديولوجية براجماتية تعتمد على التوظيف السياسي لجماعات العنف والتطرف والإرهاب، بداية من تنظيم الإخوان ومروراً بالقاعدة ونهاية بداعش في محاولات مكشوفة لبسط هيمنته على العالم العربي والإسلامي.
وقد سعت إيران لتوظيف جماعات العنف والإرهاب لتخلق حالة تأزم فكري وسياسي بين المذهب والدين وبين ممارسة السياسة وممارسة العنف.
استطاعت من خلالها استقطاب القواعد التنظيمية الرخوة للجماعات الدينية المتطرفة وعلى رأسها تنظيم الإخوان وإيواء العناصر الإرهابية المطاردة من تنظيم القاعدة بل التعاطي البراجماتي مع تنظيم داعش لحماية نفسها من خطره المتنامي والاستفادة منه كورقة للتدخل الرابح في شؤون دول الجوار وفي مواجهتها مع خصومها إقليمياً ودولياً.
هذا ويعتمد التوظيف الإيراني لجماعات العنف والتطرف والإرهاب على عناصر أساسية تحدد العلاقة بينهما، وتتسم بالمرونة والواقعية ولا تتعمق في ماهية وتفاصيل الخلاف وإنما تصدر دائما مبدأ المصلحة بلا حدود ضابطة أو قيود، ويمكن تحديد هذه العناصر فيما يلي:
أولاً: استقطاب القواعد التنظيمية الرخوة لجماعات التطرف
يعد الاستقطاب الفكري والسياسي أحد أهم عناصر التوظيف الإيرانية للكوادر والجماعات الراديكالية، ويعد تنظيم الإخوان الإرهابي أكثر الجماعات قرباً في أفكاره من إيران ونظامها السياسي، حيث تتطابق فكرة ولاية الفقيه مع فكرة الحاكمية التي ينتهجها ويتبناها الإخوان، كما أن المرجعية العليا للنظام الإيراني تحمل نفس لقب المرشد الذي لقب به حسن البنا نفسه عقب تأسيسه لجماعة الإخوان.
هذا التقارب خلق علاقة وطيدة بين الإخوان ونظام الفقيه بدأت بزيارة وفد من الإخوان للخميني في باريس لدعمه، وبعدها كانت ثالث طائرة تهبط لإيران بعد طائرة الخميني هي طائرة وفد الإخوان الذي قدم لإيران لتهنئة الخميني على قيام ثورته الدموية.
وخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي توطدت علاقة الاستقطاب بين الإخوان والملالي وتحولت شعارات الثورة الخمينية وأفكارها الوهمية إلى نماذج ملهمة لجماعة البنا إلى حد وصفها من قبل القيادي الإخواني راشد الغنوشي بأنها بداية دورة حضارية جديدة للإسلام، بل ذهب به الشطط إلى كتابة مقال بعنوان "الرسول ينتخب إيران للقيادة"، قائلا فيه "إن إيران بقيادة آية الله الخميني القائد العظيم والمسلم المقدام هي المنتدبة لحمل راية الإسلام".
وعقب اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي بدأت إيران الخمينية في توطيد علاقاتها مع الجماعة الأم في مصر، التي مهدت بدورها الطريق لعلاقة أوثق مع فروع التنظيم حول العالم.
وسرعان ما تماهت العلاقة بينهما إلى التلاقي حول مشروع "صحوي إسلامي"، بحسب زعمهما يحكمه التلاقي في الأفكار والأدبيات والمواقف السياسية ويساعده على النمو والتمدد خزان بشري هائل من كوادر تنظيم الإخوان وأتباع الملالي حول العالم.
وسرعان ما ترجم التنظيم هذا التلاقي بتخليق خلاف سياسي مع الدول العربية المناهضة للسياسيات الإيرانية في المنطقة ودعمت أذرعها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا محاولات الفوضى الإيرانية في المنطقة في تناغم واضح بين مصالح وأهداف إيران، ومصالح الجماعة الإرهابية التي ستبقى النموذج الأبرز للاستقطاب الإيراني للقواعد التنظيمية الرخوة داخل الجماعات المتطرفة.
ثانياً: إيواء العناصر الإرهابية المطاردة
تنتهج إيران منذ قيام نظامها سياسية براجماتية استغلالية ظاهرها الرفض المعلن وباطنها الإيواء والاحتواء والتحالف مع الجماعات الإرهابية والمتطرفة وعلى رأسها تنظيم "قاعدة الجهاد "وتقوم بتوظيف هذه العلاقة في الضغط على أعدائها إقليميا ودوليا.
وكان المنسق في تلك الفترة عماد مغنية، وأثمر دوره عن لقاء تاريخي جمع بينه وبين أسامة بن لادن وحسن الترابي، وممثل إيران محمد باقر ذو القدر رئيس هيئة أركان الحرس الثوري آنذاك.
وقد اعتمدت إيران في توظيفها لتنظيم القاعدة على استراتيجية مرحلية قامت في بدايتها على تبادل المصالح المشتركة بالسماح لعناصره باستخدام الأراضي الإيرانية ومن ثم بناء علاقة ثقة مع قادته وعلى رأسهم أسامة بن لادن زعيم التنظيم السابق لتنتقل إلى استراتيجية ثانية بالاحتواء الكامل من خلال تحويل أراضيها إلى ملاذات آمنة وتوفير معسكرات لتدريب عناصره لتصل في النهاية بالتنظيم إلى التعاون الكامل في تنفيذ عمليات خارجية لصالحها من الداخل الإيراني.
كما شكلت عملية إيواء قادة وعناصر القاعدة جزءا من استراتيجيتها المزدوجة التي استطاعت من خلالها تحقيق عدة أهداف رئيسية، الأول: استخدام عناصر التنظيم كورقة ضغط ومقايضة مع التنظيم نفسه حال تعارض أهدافه مع مصالحها.
والثاني تهديد دول جوارها الجغرافي الدائم بالإرهاب والعنف من أجل وضعها دائما في حالة استنفار واستعداد لمواجهة هذا الخطر مما يؤدى إلى إنهاكها وتبديد جهودها في التنمية والإصلاح، والثالث وضع الولايات المتحدة الأمريكية في موضع الدفاع المستمر عن حياة جنودها من الخطر القادم إليها من داخل الحدود الإيرانية في العراق وأفغانستان.
وما يؤكد على ذلك أهمية مواقع وأسماء القيادات القاعدية التي قام نظام ولاية الفقيه بإيوائها وعلى رأسهم سيف العدل محمد صلاح زيدان، القيادي العسكري للتنظيم وسعد بن لادن، الابن الثالث لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن مع 24 من أفراد عائلته وأبوحفص الموريتاني، أول مسؤول شرعي لتنظيم القاعدة وجعفر الأوزبكي المسؤول عن نقل الأموال والمقاتلين الأجانب عبر تركيا لصالح جبهة النصرة وصالح عبدالله القرعاوي، مؤسس كتائب عبدالله عزام في بلاد الشام، وهو من أخطر 85 مطلوبا على قائمة الإرهاب التي أعلنت عنها المملكة العربية السعودية.
وقد أثبتت وثائق "أبوت آباد" التي حصلت عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه"، بعد الغارة التي نفذتها قوات البحرية الأمريكية عام 2011 على مجمع بن لادن في باكستان، وجود علاقة وثيقة بين إيران وتنظيم القاعدة.
وأن الأولى استفادت من تلك العلاقة في القيام بعمليات إرهابية ضد المملكة العربية السعودية، وفي تقديم عرض للقاعدة، يتضمن توفير الدعم المالي والأسلحة وتدريب أعضائها في معسكرات حزب الله في لبنان، مقابل ضرب التنظيم للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج.
كما أن أسامة بن لادن، وجه في مراسلاته التي كشفتها الوثائق وبشكل مباشر إلى أتباعه بعدم فتح جبهة ضد إيران، كما أن إيواء إيران للعناصر الإرهابية المطاردة من تنظيم القاعدة كان له فائدة مباشرة عليها استطاعت من خلالها توظيفها لتنفيذ جرائمها ضد الإنسانية في الوقت الذي تصف نفسها بالدولة الممانعة الحامية للاعتدال على الأرض.
ثالثاً: التعاطي البراجماتي مع داعش
استطاعت إيران توظيف ما بقي من شوائب التفكير القاعدي لدى داعش والمتعلقة بالتحديد الدقيق للعدو القريب والعدو البعيد ووضع نفسها في خانة العدو البعيد ما دام التنظيم يستهدف حلفاءها من المليشيات والطوائف الشيعية في العراق وسوريا وباقي أنحاء العالم كـ"عدو" قريب، في تعاطي براجماتي غير مسبوق.
ويؤكد على ذلك عدم استهداف داعش للداخل الإيراني سوى مرة واحدة في 7 يونيو/حزيران عام 2017، في هجومين منفصلين وفي توقيت متوازٍ ضد البرلمان الإيراني وضريح الخميني، في الوقت الذي استهدفت فيه دول الجوار الإيراني في العراق وسوريا والمملكة العربية السعودية والكويت وتونس ومصر وليبيا والبحرين بعشرات العمليات.
وما يدلل على التوظيف الإيراني لداعش صفقة نقل عناصر تنظيم داعش من القلمون الغربي في الحدود اللبنانية السورية، إلى مدينة دير الزور على الحدود العراقية السورية، في 29 أغسطس/آب عام 2017، أي بعد مرور أقل من 3 شهور على استهداف داعش للداخل الإيراني.
وبذلك استطاعت إيران نقل أي مواجهة عسكرية مسلحة مباشرة مع تنظيم داعش إلى الداخل العراقي والسوري واللبناني وبأدوات عراقية سورية لبنانية.
مما سبق نستطيع التأكيد على الاستخلاصات التالية:
- استطاعت إيران خلال 40 عاما توظيف جماعات العنف والتطرف والإرهاب بمختلف تلوناتها الأيديولوجية في تحقيق مصالحها والتأثير بالسلب على التفاعلات والتوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، من خلال أيديولوجية براجماتية استغلت من خلالها الأوضاع المجتمعية والدينية والسياسية المتدهورة في العديد من الدول العربية والإسلامية.
- أن الرغبة الإيرانية الجامحة في الهيمنة والسيطرة والاستحواذ دفعها إلى تجاوز المذهب من أجل المصلحة والتوافق مع الخطر الجهادي الدموي على حساب حقوق ومصالح وحياة شعوب الجوار.
- ما زالت إيران منذ عام 1979م مصرة على تشويه الإسلام الوسطي المعتدل من خلال توظيفها لجماعاته المتطرفة من أجل التأسيس والترسيخ والتسويق للمشروع الفارسي الخميني الذي يصدّر خطاب الاستضعاف والمظلومية.
- يعتمد التوظيف الإيراني لجماعات العنف والإرهاب على استراتيجية مرنة وواقعية لا تتعمق في تفاصيل الخلاف وتصدر دائما المصلحة غير المقيدة بضابط أو عائق من أجل حماية نظامها القمعي وتصديره إلى خارج حدودها.