قد تحجبُ التحفُ الفنية الرائعة سيرة مبدعيها وتسبقُ شهرة اللوحاتِ صيت صانعيها كما هو واقع بالنسبةِ للوحة موناليزا التي أصحبت رديفَ عبقرية ليوناردو دافينشي، أكثر من ذلك فإنَّ الأفلامَ المُقتبسة من حياة الفنانين تُعنون أحياناً باسم إحدى أعمالهم الفنية.
هذا ما حصل عندما حولت حياة الفنان الهولندي يوهانيس فريمر إلى فيلم سينمائي بعنوان "فتاة ذات القرط اللؤلؤي" وهذا يعني أن العمل الفني قد يخطفُ الأضواء من صاحبه لكن يوجدُ في هذا السياق استثناء حيثُ لفتت حياة فان كوخ الإنتباه على المستوى الواسع وذلك نظراً لما اتصفت به أيام صاحب "آكلو البطاطا" من الغرابة فهو قد إختبر مواقف تراجيدية وخيبات متراكمة لعلَّ من أصعبها هو الشعور بالوحدة إذ إفتقد إلى صخب الحب وسط عزلته الموحشة.
وتأتي الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو في صفِ من استقطبت وقائع حياتهم اهتمام المُتابعين، ومن الواضح أنَّ كاهلو رصدت موهبتها الفنية لسرد جانبٍ من سيرتها الذاتية بالألوان، فالبتالي لا ينفصلُ ما رسمته عن رحلة حياتها القصيرة فهي عبرت عن شوقها لبلدها من خلال رسم عندما كانت مُقيمةً بصحبة ريفيرا دييغو في سان فرانسيسكو حيثُ عكف الأخير على إنجاز مشروع رسم الجداريات كما احتفت فريدا كاهلو بعيد ميلاد أصدقائها بإهداء صورها الشخصية التي رسمتها. وانعكسَ توقها الشديد للأمومة أيضاً فيما رسمته.
إذاً فإنَّ المحطات التي مرت بها فريدا كاهلو صارت ثيمة أساسيةً في برواز لوحاتها وبورتريهاتها غير أنَّ هذه الخصوصية الفارقة في أعمال كاهلو الفنية لا تُعوضُ الوقوف على ما نُشر من مؤلفات حول هذه المرأة المُغامرة.
صدر أخيراً كتاب "الحب المدنس والمقدس في حياة فريدا كاهلو" للكاتبة كلوديا شفير بترجمة محمد الفشتكي تتبعُ الكاتبةُ حياة كاهلو على جميع الأصعدة الإجتماعية والفنية والسياسية والعاطفية.
المرض
بما أن فريدا كاهلو من الشخصيات الجدلية، وحياتها كانت صاخبةً لذا هناك مداخل عديدة تُمكنك النفوذ من خلالها إلى عالم هذه الفنانة. تكوينها العائلي، ومواقفها السياسية، وعلاقاتها العاطفية، لكن قبل مقاربة هذه الأبعاد في شخصيتها لا بُدَّ من التركيز على صراع فريدا مع مشاكلها الجسدية إذ كانت لديها التشوهات في العمود الفقري وتتضاعف معاناتها بعد حادثة اصطدام الحافلة التي تقلها إلى كويكان 17 سبتمبر/أيلول 1925 برفقة صديقها أليكس ولولا إصرار الأخير على عناصر من المُسعفين لعناية بفريدا كاهلو لدفنت مع الموتي قبل أنْ يعرفَ العالم نبوغها الفني لم تتعافَ من أعراض هذه الكارثة وعلى إثرها اعتمد جسدها على المشدات والدعامات وإنقطع عن بريبا في مكسيكو سيتى وخسِرَتْ أجواء المناقشات مع أصحابها الذين لقبوا أنفسهم بـ "لوس كاشوتشاس" أدار أفراد هذه الجماعة نقاشات حول فلسفة ماركس وأنجلز وهيغل وكانط إضافة إلى تناول نظريات سياسية وإقتصادية.
يُذكر أن فريدا كاهلو إلتحقت بمدرسة "بريبا" بتشجيع من والدها على أن تدرس في مجال الطُب لاحقاً لكن ما وقع لها في ذلك اليوم المشؤوم حتمَ عليها إختيار مجال آخر إذ أمضت أيامها في رسم صورها الذاتية واستعادت في إحدى لوحاتها حادثة الحافلة.
وهكذا تفردُ جُلَّ أوقاتها للفن وتُصبحُ الألوانُ ترياقاً للوحدة ومُقاومة طوق العاهات الجسدية، وقد وفر لها والدها - الذي كان فوتوغرافياً - الأدوات لتتسلى بالألوان في رقدتها. مع أنه لا يوجدُ في سيرة فريدا ما يوحي باهتمامها بالفيلسوف الألماني نيتشة لكن حياة الإثنين متشابهة، فكلاهما قد تعامل مع المرض بوصفه فرصة للإشتغال على الإهتمامات الذاتية.
يعترفُ نيتشة بأن مرحلة المرض كشفت له وجهاً جديداً للحياة وصار بوسعه تذوق كل الأشياء الطيبة. كذلك بالنسبة لكاهلو ما حطمت العلةُ البدنيةُ إرادتها فكانت إنطلاقة كاهلو الفنية تطوراً لموهبتها في تخيل الأصدقاء الوهميين، إكتسبت هذه المهارة منذ طفولتها زيادة على ذلك تميزتْ فريدا بروحية مداعبة وقعت رسائل لأصدقائها بالإسم الذي ينادون بها فتاة ذات الساق الوتدية.
تركيبة غريبة
مسيرة حياة هذه الفنانة المكسيكية مركبةُ من المشاعر والعواطف الغريبة يبدو وفقاً لما تقدمه مؤلفة سيرتها كلوديا شيفر أنَّ فريدا أرادت إستنفاد طاقاتها في المُغامرات المُتعاقبة إذا أخذت بِمُتابعة تجربتها العاطفية تلمسُ وجود الإختلاف بينها وبين بنات جنسها مع أنها لم تتمتعْ بمواصفات أختها كريستينا لكن نجحت في التواصل مع المميزين، ولم تقتنعْ إلا بأن تكون نداً لرفقائها في بريبا إذ صاحبت غوميز أرياس، ميغيل ليرا، مانويل غونزاليس، في عصرٍ نادراً ما تجدُ فتاةً في مرافق تعليمية تواكبُ نقاشات فكرية وسياسية.
كما تذهبُ أبعدُ في مُغامراتها وحققت ما قالتهُ لأصدقائها بأنها ستتزوج بـ دييغو ريفرا، فالأخير من أشهر رسام الجداريات آنذاك ينعمُ بأيام مجده. كلفته حكومة الإستقلال برسم صور لإبطال وطنيين. ربما رأت فريدا في علاقتها مع دييغو ريفرا حباً إستثنائياً مُخالفاً لما طبع علاقة والديها إذ أسرت ماتيلدا لابنتها بأنها قد أحبت شاباً انتحر قبل أن تتعرفَ على غيليرمو القادم من ألمانيا.
لن تكونَ علاقة فريدا بريفييرا بعيدة عن التوتر على رغم مساعيها لإستيعاب زوجها الذي يكبرُ عنها بإحدى وعشرين سنةً من المعروف أن ريفيرا كان يُقيمُ تواصلاً حميمياً مع أكثر من إمرأةٍ. وعاش حياةً بوهميميةَ في باريس حيث ارتبط بامرأتين روسيتين أنجيلينا بلوف، والثانية تدعي ماريفنا، ويهجر الاثنتين عائداً إلى المكسيك.
ما كان مؤلماً لفريدا هو اكتشافها لوجود علاقة بين زوجها الفنان وأختها كريستينا. إذن كان ريفيرا مطارداً للنساء ويظهر على صورة كتلة من التناقضات وهذا ما زاد من أزمات فريدا ففي عام 1932 ذاقت مرارة موت والدتها عليه فإنها أصحبت هامشية في حياة ريفيرا نظراً لإنشغال الأخير برحلاته إلى أن تنفصل فريدا من ريفيرا دييغو وتنتقل إلى الإقامة في منزل آخر وتقص شعرها الطويل الذي أعجب بها ريفيرا.
فضلا عن كل ماسبق ذكره فإن فريدا من جهتها لم تُمانع خوض تجربة مُغامرات عاطفية خارج أطر حياة زوجية مع كل من نيكولاس موراي وإيسامونوغونتشي والزعيم الشيوعي الهارب تروتسكي.
تدس المؤلفة إشارات لعلاقاتها الشاذة. لا تتجاهل كلوديا شفير خصوصية فريدا في ملبسها وما تتزين به من الإكسسوارات فكان فستانها تيهوانا علامةً لشخصيتها. تتزوج فريدا من جديد بريفيرا. وتبلغُ فريدا ذروة نجاحاتها ولم تُعدْ شخصية مُلحقة بزوجها إذ يتمُ الإحتفال بفنها في باريس.
يصف أندريه بريتون عمل كاهلو بشريط ملون ملفوف على قُنبلة. عاشت فريدا كاهلو حياةً عاصفة ترحل سنة 1954 يشار إلى أن كاهلو تغير تاريخ ميلادها من 1907إلى 1910 ليتزامن مع تاريخ الثورة المكسيكية.
وقد جذبت سيرة كاهلو صُناع الفن السابع ونُقلتْ حياتها إلى السينما وتُعتبرُ سلمى حايك أبرز من جسدت شخصية هذه الفنانة المثيرة للجدل.