رفتن به محتوای اصلی

عاشوراء و"احتجاجات تشرين" في العراق

عاشوراء
AvaToday caption
ليس مستغربا من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي أن ترفض مقاربة احتجاجات تشرين كامتداد لثورة الحسين وذكراها في عاشوراء؛ لأنَّ الإقرار بذلك يعني اعترافهم بشرعية المطالب التي ترفعها احتجاجات تشرين
posted onSeptember 1, 2020
noدیدگاه

إياد العنبر

كان الوصف الأدق والأكثر مصداقية حول تأثير حركة الاحتجاجات في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي هو ما حدده المرجع الديني الأعلى علي السيستاني بعبارته: "لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل الأحوال". على الرغم من أن حركة الاحتجاجات لم تحقق جميع مطالبها وغاياتها الرئيسة بإصلاح النظام وإحداث التغيير في منظومة العمل السياسي التي تسببت بالفساد والفشل وهدر الثروات، فإن المنجز الحقيقي الذي حدث هو كسر دائرة الخوف لدى جيل شبابي ضحّى بدمائه من أجل أن يصل صوته المطالِب بإصلاح النظام وكشف عوراته.

ويوم بعد آخر تثبت حركة احتجاجات تشرين أنها ليست مجرّد تظاهرات وحركة احتجاج فحسب، وإنما هي نقطة فاصلة في تطورات الحياة السياسية في العراق. فحضورها الفاعل والمؤثر في مراسيم وشعائر الاحتفاء بذكرى عاشوراء لهذا العام يؤكد أنها تستثمر كل المناسبات الاجتماعية والدينية لإثبات شرعية مطالبها وشعاراتها التي رفعتها ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة.

لقد حوَّلت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بعد عام 2003 ذكرى عاشوراء مناسبة لتأكيد الهوية الشيعية للعراق، وعلى الأغلب كانت توظَّف للتعبير عن حجم وقوة الأغلبية الشيعية وتكريس سلطتها الاجتماعية والسياسية، وقد لا يحتاج هذا الموضوع إلى أن تتبنّاه تلك الأحزاب، لأن مجاله يرتبط بتدين أبناء الوسط والجنوب. لكن يبدو أن الإسلام السياسي الشيعي كان يسعى إلى ترسيخ فكرة أن إحياء مراسيم ذكرى عاشوراء هي إحدى أهم منجزاته التي يقدّمها لجمهوره الشيعي، من دون أن يقدم نموذجا لإدارة الدولة والمجتمع قائم على أساس تحقيق الفضائل التي بذل الإمام الحسين حياته من أجلها.

ولذلك، طغت على طقوس عاشوراء التوشح بالسَّواد والضرب على الصدور، ومجالس العزاء التي تستذكره الحادثة بروايتها التاريخية مع التعبير عن مظلومية الشيعة عبر التاريخ الإسلامي، ونقد لأوضاع المجتمع من خلال جلد الذات الشيعية، لأنها تخلَّت عن نهج الأئمة المعصومين. وما عدا السنوات الأخيرة لم يكن هناك تطرق لانتقاد الفساد وسوء الإدارة الذي انعكس على كل مرافق الحياة العامة في المحافظات الوسطى والجنوبية. والمفارقة أن مجالس إحياء ذكرى عاشوراء التي تعد مناسبة لنقد حكم آل أمية وطغيانهم وتسلطهم على رقاب الأمة الإسلامية بغير وجه حق، واتخاذهم مَالَ اللَّهِ دُوَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، كل هذا يتم في قاعات فارهة تابعة لأحزاب السلطة التي أغلب زعمائها وشخصيتها متهمين بالفساد وسوء الإدارة.

ثورة الحسين عليه السَّلام أرادتها أحزاب السلطة أن تكون ذكرى تاريخية تُستَحضَر بالبكاء والنحيب واللطم على الصدور، في حين يعتبرها الجيلُ الشيعي الجديد ثورة ضد الظلم والفساد. ولذلك ليس مستغربا من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي أن ترفض مقاربة احتجاجات تشرين كامتداد لثورة الحسين وذكراها في عاشوراء؛ لأنَّ الإقرار بذلك يعني اعترافهم بشرعية المطالب التي ترفعها احتجاجات تشرين، وبالنتيجة هي حركة تعبّر عن امتداد تاريخي ومبدأي ضد سلطة فاسدة وغاشمة بصرف النظر عن عقيدة وانتماء مَن يمسك بها.

مثَّلت عاشوراء هذا السنة تجسيدا لمعركة بين معسكرَين، معسكر يقوده جيل شبابي يطالب بحقوقه، وأوليغارشية من السلطويين وأتباعهم. والمعركة بين مَن يريد أن تبقى ذكرى ثورة الإمام الحسين طقوسية تختزل في القصائد البُكائية التي تستحضر مأساة الاستشهاد وسبي آل بيت النبوة، وحركة شبابية تستحضر المبدأ والثورة ضد حكم الفاسدين والفاشلين وتريد تجسيد شعار "هيهات منّا الذلة" فعلا في ساحات التظاهر والاحتجاج.

وهذا تحديدا ما عكسته القصائد والمواكب الحسينية في النجف وكربلاء والبصرة التي تصدح حناجر خطبائها وشعراءها بمواقف ودماء شباب تشرين، يقابلها مجالس عزاء في قصور أحزاب السلطة يقتصر على شخوص السلطة وجمهورهم، وتتركز ذكرى الثورة الحسينة فيها على الحادثة التاريخية باعتبارها فجيعة ومأساة حدثت في كربلاء بعيدا عن روح الثورة وقضيتها في التحرر ورفض الخضوع والخنوع.

تتماهى عاشوراء ما بعد احتجاجات تشرين مع حركة احتجاجية تريد إثبات أن ثورة الإمام الحسين مستمرّة ما دام هناك نظام حكم يتجاهل حقوق الناس بحياة حرّة وكريمة، بصرف النظر عن الانتماء الديني والطائفي والقومي لمن يدير ويتحكم بهذا النظام، وأن ساحات الاحتجاج هي المكان الحقيقي للتعبير عن الانتماء للثورة الحسينية، وهنا تحديدا رفض لاختزال إحياء ذكرى عاشوراء بمجالس عزاء تذرف بها الدموع لنيل الثواب.

ومن ثمَّ، القراءة الثورية لذكرى عاشوراء باعتبارها حركة نهضوية ضد ظلم الحكام لا يمكن أن يعبر عنها من يسكن قصور السلطة، وإنما تجسّدها الحركات والمواقف التي ترفض الظلم. ونحن هنا إزاء تحول في فهم طبيعة طقوس وشعائر دينية ونمط ممارستها يعبر عن تمثلها في فاعلية اجتماعية وسياسية وليست طقوسية فحسب.

منطق السلطة في بلداننا المنكوبة بالفشل والفساد لا يعرف غير الاستئثار بالحكم والتعامل بالحديد والنار ضد من يعارضه قولا أو فعلا، ومن ثم لا يمكن الجمع بين النقيضين: من جهة ادعاء أحزاب السلطة بأنها تسير على نهج ثورة الإمام الحسين وترفع شعاراتها بالإصلاح، في حين سياساتها في الحكم وممارستها للسلطة على نهج قتلة الحسين.

إن انعكاسات تظاهرات تشرين على خطاب المنابر في مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء، يؤشر تحولا يتمظهر في تشكيل قناعات وخيارات الجمهور الشيعي إزاء السلطة والحكّام، فهو يؤشر التماهي بين معاناة الناس من سنوات الخراب التي مرَّت على البلاد من سوء إدارة القائمين على السُّلطة، والموقف منهم يكون بعيدا عن المخاوف المرتبطة بمفهوم الهويّة الشيعية الذي أراد الإسلام السياسي الشيعي حصرها بالشعائر والطقوس كمؤشر للانتماء السياسي. وعليه فإن الأولويات الآن ـ في نظر الجمهور ـ هي لمن يضمن مستقبلا للأجيال، وليس لمن يستخدم شعارات الثورة الحسينية للبقاء بالسلطة.