Ana içeriğe atla

إرنست رينان المفكر التنويري قلب صفحات التاريخ

إرنست رينان
AvaToday caption
إرنست رينان هو من أكثر الباحثين عمقاً وجرأة في عصره. في كتابه "حياة يسوع" (1863) الذي أعادت دار كالمان ليفي إصداره أيضاً هذا العام بمناسبة مئوية ولادته الثانية
posted onJuly 12, 2023
noyorum

تحتفل فرنسا بالذكرى المئوية الثانية لولادة المؤرخ والفيلسوف وعالم الآثار واللغات السامية القديمة إرنست رينان (1823-1892) وتعقد حوله مؤتمرات عدة، وأولها مؤتمر عالمي نظمته لجنة رينان في مسقط رأسه، مدينة تريغييه الواقعة في مقاطعة برتاني غرب فرنسا. وفيه تناول 12 باحثاً وباحثة أعمال هذا العالم الذي طبقت شهرته الآفاق وتميز بقوة بشخصيته وذكائه ومعارفه وروحه العلمية الحادة وعشقه للغات القديمة كاليونانية واللاتينية والعبرية والسريانية والعربية، التي اعتبر أن ليس لها طفولة ولا شيخوخة، بل ظهرت لأول أمرها تامة محكمة، عطفاً على إتقانه اللغة السلتية التي كان يتحدثها بطلاقة.

عرف إرنست رينان بأبحاثه العلمية وكتبه التي تدمج بين معارف عدة، وخصوصاً بمحاضرتيه الشهيرتين اللتين ألقاهما في جامعة السوربون الأولى بعنوان "ما هي الأمة؟"، وهي لا تزال مرجعاً أساسياً في تحديد هذا المصطلح، والثانية بعنوان "الإسلام والعلم"، التي أثارت حين نشرها ردود فعل ما زالت أصداؤها قائمة حتى اليوم. ومنها المناظرة الشهيرة التي دارت بينه وبين العلامة جمال الدين الأفغاني (1838-1897) حول مضمون محاضرته عن علاقة الإسلام بالعلوم وغيرها من التعليقات التي ظهرت في العالمين العربي والغربي. وعرف بترؤسه بعثة إلى لبنان بناء على طلب الأمبراطور نابوليون الثالث، أطلق عليها اسم "مهمة فينيقيا" وضمت إلى شقيقته هنرييت بصفة مساعدة، اختصاصيين في التنقيب والطوبوغرافيا والرسم، تركز عملهم في مدن الساحل الفينيقي كطرطوس وجزيرة إرواد وجبيل وصيدا وصور، ومناطق أخرى.

وامتدت هذه المهمة الاستكشافية العلمية من الـ21 من ديسمبر (كانون الثاني) عام 1860 لغاية الـ10 من نوفمبر (تشرين الأول) عام 1861، ومكث رينان طوال أيامها في لبنان ولم يغادره إلا لزيارة الأراضي المقدسة لأسابيع قليلة، كجبل الكرمل وحيفا ونابلس والقدس والخليل ويافا والناصرة وطبريا. وشكلت هذه الرحلة مصدر إلهام كبير لكتابه عن "حياة يسوع"، علماً أن مكان إقامته الدائمة كان في لبنان، في بلدة غزير أولاً، التي انتقل بعدها إلى بلدة عمشيت الساحلية، حيث توفيت ودفنت شقيقته بسبب إصابتها بالحمى.

عند عودته لفرنسا، أصدر رينان كتاباً بعنوان "مهمة فينيقيا" المؤلف من ألف صفحة أرفقه "بفهرس للقطع الأثرية التي وجدها وحمل جزءاً كبيراً منها إلى بلاده. وقامت دار "تراب لبنان" بإعادة نشره بطبعة فاخرة عام 1997.

وإرنست رينان هو من أكثر الباحثين عمقاً وجرأة في عصره. في كتابه "حياة يسوع" (1863) الذي أعادت دار كالمان ليفي إصداره أيضاً هذا العام بمناسبة مئوية ولادته الثانية، هو واحد من أكثر الكتب رواجاً في القرن الـ19. اتبع رينان في كتابته وتحريه عن حياة يسوع أسلوباً علمياً صرفاً قائماً على المقاربات والمنهجيات الفيلولوجية والتاريخية والأثرية. فكان له حين صدوره وقع قنبلة، إذ دعا فيه أولاً إلى التمييز بين يسوع كشخصية تاريخية "لا شبيه لها" وشخصيته الإيمانية المقدسة كما رسمتها الكنيسة، وإلى نقد المصادر الدينية من خلال التمييز بين العناصر التاريخية والعناصر الأسطورية. الأمر الذي جعل الكنيسة الكاثوليكية تشن هجوماً ضده موقعة مئات من المقالات والمجلدات التي نشرت في فرنسا وخارجها للرد على كتابه. وأصبح رينان خلال تلك الفترة واحداً من حاملي راية علم الديانات المستند إلى المنهجية التاريخية المتحررة من مبادئ العقائد الدينية.

ولد إرنست رينان في الـ28 من فبراير (شباط) عام 1823 في مدينة تريغييه الساحلية الصغيرة. يخبرنا هو نفسه في نص تناول سيرته الذاتية بعنوان "ذكريات الطفولة والشباب" أن والده كان بحاراً بسيطاً توفي غرقاً وهو في سن الخامسة من عمره، وأن أمه وأخته التي تكبره بـ12 سنة، وهي تابعت عن قرب مسار حياته، تولتا تربيته، وأنه ورث من عائلته نزعات متناقضة تتوزع بين الإيمان الكاثوليكي البسيط، وبين العلمانية المتأثرة بأفكار فولتير وعصر الأنوار.

في مدينة لانيون القريبة من مسقط رأسه، بدأ رينان تلقي دراسته في مدرسة تابعة للأخوة المسيحيين، ثم انتقل بعدها إلى معهد إكليركي في تريغييه تابع للكنيسة الكاثوليكية. ولئن ظهرت عليه علامات التفوق والذكاء، فقد قرر مدير المعهد إرساله عام 1838 إلى باريس لمتابعة دراسته وتنشئته الكهنوتية. غير أن انتقاله إلى العاصمة الفرنسية جعله يكتشف اهتمامات أخرى كقراءة نصوص وروايات وأشعار فيكتور هوغو ولامارتين والتعرف على العلوم الوضعية، لا سيما علوم التاريخ واللغات القديمة. سيم إرنست رينان راهباً عام 1843. لكنه بعد خمس سنوات من الحياة الرهبانية، قرر ترك الدير والتفرغ لدراسة العلوم، مفضلاً أن يكون أستاذاً وباحثاً، قبل أن يعين مدير مشروع لدراسة المخطوطات اليونانية والشرقية في إيطاليا.

في تلك الفترة من حياته، وضع رينان كتابه عن "مستقبل العلم" ولم ينشره إلا لاحقاً، فيه دافع عن العلم والعقل وتصنيف الشعوب وفق درجة اقترابها من العقلانية الإغريقية، منشأ نوعاً من التقابل بين عقلية الشعوب السامية المسترسلة في الخيال والبلاغة والمرجرجة الفكر والقائلة بالجبرية وبين عقلية ومزايا الشعوب الآرية والهندو-أوروبية القائمة على إعمال العقل. تغذى هذا التقابل من إعجاب رينان بالفكر الألماني، لا سيما بالمثالية الألمانية كما تجلت في كتابات فيخته وشلينغ وهيغل.

أما في عام 1852 فنشر رينان أطروحته عن "ابن رشد والرشدية"، التي تعتبر مرجعاً أساسياً في دراسة فكر الفيلسوف العربي وانتشار مذهبه في أوروبا منذ أواخر القرن الـ12، وتأثر بها النهضوي التنويري فرح أنطون الذي أصدر كتاباً لخص فيه كتاب رينان عن يسوع. وانتخب عام 1878 عضواً في "الأكاديمية الفرنسية" خلفاً لعالم الأحياء كلود برنارد، وفي عام 1883 مديراً لـ"الكوليج دو فرانس"، المؤسسة الفرنسية العريقة التي تهتم بالبحث العلمي والتعليم على مستوى الباحثين وطلبة الدراسات العليا التي أنشئت في القرن الـ16 بمرسوم ملكي، كان الهدف الأساسي منه تشجيع دراسة علوم معينة كاللغتين العبرية والعربية واللغة الإغريقية والرياضيات.

إلى ذلك أصدر رينان عدداً من الكتب والدراسات التي تناولت تاريخ الأديان والأعراق واللغات، خصوصاً تلك المتعلقة بالشعوب السامية والمرتبطة بتاريخ نشأة المسيحية وأصولها، وألقى كثيراً من الخطب والمحاضرات نشرت في كتاب مستقل أعاد طبعه مرات عديدة. لعل أهم هذه المحاضرات، كما سبق وأشرت، تلك التي تناول فيها مفهوم الأمة التي مثلت أحد النصوص الأساسية في أدبيات الفكر القومي الأوروبي آنذاك. في تقديمه لها  عبر رينان عن حرصه على وزن كل كلمة فيها بعناية فائقة، قائلاً إنها خلاصة فكره في ما يتعلق بالإنسانية.

والمحاضرة تقسم بعد المقدمة إلى ثلاثة أقسام، يورد القسم الأول بعض الوقائع التاريخية التي لها امتداد في تأسيس الأمم. ويشير القسم الثاني إلى الآراء المختلفة حول عوامل تأسيس الأمة. أما القسم الثالث فيوضح رأي رينان في تحديد مفهوم الأمة، مشيراً إلى أنه مفهوم جديد على التاريخ لم يعرفه الزمن القديم. ويبدو أن أرنست رينان سعى في محاضرته هذه إلى مقاربة مفهوم الأمة والقومية من منظار إنسانوي منفتح محاولاً تحديد العناصر التي يؤلف مجموعها هذا المصطلح. فيها استشرف أن أوروبا الغارقة في النزاعات والحروب القومية ستتوصل في المستقبل إلى نوع من الاتحاد. واتسمت مقاربته هذه باستعلاء معرفي وتاريخي لأوروبا على سائر الشعوب والقوميات

من بين أعماله التي لاقت رواجاً أيضاً، كتابه الشهير "صلاة على الأكروبوليس" وهو في الواقع الفصل الثاني من كتابه "ذكريات الطفولة والشباب". فيه استحضر اكتشافه للحضارة اليونانية إثر رحلة قام بها عام 1865 إلى أثينا. وطبع من الكتاب المرفق برسوم توضيحية أكثر من 400 نسخة خصصت للمعرض العالمي الذي أقيم بعيد وفاته في باريس عام 1900، وعد آنذاك من روائع النشر الفرنسي.

ومن المعروف أن رينان سافر في رحلات علمية عديدة إلى بلدان كإيطاليا واليونان والسويد ولبنان وسورية وفلسطين وغيرها من البلدان. لكن هذه الرحلات لم تمنعه من العودة لمدينته والإقامة في منزل ما زال قبلة زائري مقاطعة برتاني الفرنسية، بعد تحوله إلى متحف ضم مقتنياته وكتبه وآثاره.

لا شك في أن أفكار إرنست رينان وكتاباته لم تحظ بإجماع دارسيه وقرائه. بعضها ما زال مثار جدل ونقاش. لكنها تعكس بالتأكيد مناخاً فكرياً وإشكالات وقضايا طبعت القرن الـ19.

يبقى في النهاية أن رينان، صديق فلوبير وعاشق روايات جورج صاند، التي كان يتردد على صالوناتها الأدبية، يعد بالتأكيد من أوائل كبار المثقفين في العالم. وهو إلى جانب سعة علمه، أديب ومفكر من الطراز الأول. أنشأ في كتاباته طريقة وأسلوباً جذابين في تناول مسائل التاريخ والأعراق واللغات والأديان، وشكلت هذه المواضيع آنذاك محور النقاشات الفكرية. غير أنه في تناوله لها لم تخل كتاباته من اللبس أحياناً، ومن التناقض أحياناً أخرى، إذ تجاذبته نزعات فكرية وثقافية متباينة، لعلها تعود لمسرى حياته العائلية وانتقاله من الكاثوليكية إلى العقلانية والعلموية الداعية إلى اعتبار العقل والعلم الإيمان الديني الجديد للبشرية