أثارت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ديسمبر الماضي، قاعدة "عين الأسد"، كبرى القواعد الأمريكية غربي العراق، دون علم الحكومة، جدلاً داخل الساحة السياسية العراقية بشأن حقيقة الوجود الأمريكي وحجمه في البلاد والغاية منه، في حين طالبت القوى السياسية الشيعية بسنِّ قانون في البرلمان يلزم تلك القوات مغادرة الأراضي العراقية.
ورغم الإحراج الذي تسببت فيه زيارة الرئيس الأمريكي للحكومة العراقية، فإنه عاد ليثير غضباً تجاوزت تداعياته بغداد لتصل إلى طهران، حين صرح ترامب في تحدٍّ واضح للنفوذ الإيراني، الأحد (3 فبراير)، بمقابلة مع قناة "سي بي إس" الأمريكية، أن هناك أهمية كبيرة للإبقاء على قاعدة عسكرية في العراق، حتى تتمكن واشنطن من مراقبة إيران.
لم تتمكن القوى الشيعية الموالية لإيران من سن قانون يلزم القوات الأمريكية المغادرة، بسبب التزامات متبادلة مع الجانب الأمريكي كبَّلت أيدي الحكومة في الاتفاقية الأمنية التي وُقعت في زمن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
إلا أن إيران تمتلك القدرة على الضغط على واشنطن عن طريق الحرب بالوكالة، بالتعاون مع حلفائها، لتنفيذ هجمات ضد القواعد العسكرية الأمريكية، في إطار الصراع الدائر منذ سنوات بين الطرفين على الساحة العراقية.
وفي هذا السياق، وجَّه الحشد الشعبي تهديداً مباشراً إلى واشنطن بعد إعلان ترامب أن القواعد الأمريكية ستعمل على رصد الجانب الإيراني، قبل أن يتراجع سريعاً، مقدِّماً ضمانات لرئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، بعدم التعرض لتلك القوات.
وعلِم مصادر أعلامية من مصدر مطلع أن أطرافاً عسكرية عراقية موالية لإيران تواصلت مع قيادات في المقاومة العراقية، وعرضت عليها الدعم لمواجهة الوجود الأمريكي الجديد الذي جاء بطلب رسمي من الحكومة العراقية بعد احتلال "داعش" مساحات واسعة من الأراضي العراقية عام 2014.
وقال المصدر الذي كان قائداً لأحد فصائل المقاومة، مفضلاً عدم ذكر اسمه إن "فصائل من المقاومة السابقة تلقت رسالة عبر وسيط عراقي مرتبط بإيران، تحثها على مجابهة الوجود الأمريكي في المناطق السنية، وتوجيه ضربات إلى القواعد الأمريكية في محافظتي الرمادي والموصل وأطراف بغداد".
وأضاف "الوسيط عرض على الفصائل تقديم المساعدة المادية والعسكرية، وتوفير التغطية السياسية لأي عمل عسكري، وضمان عدم التعرض لأي ملاحقة قانونية في الحاضر والمستقبل"، مشيراً إلى أنه "اعتبر الوجود الأمريكي عودة صريحة لاحتلال العراق بذريعة داعش، وأن انحسار الوجود في المناطق السنية يجعل المسؤولية الأخلاقية في مواجهة الاحتلال الجديد تقع على عاتق المقاومة الوطنية".
وعن الرد الذي تلقاه الوسيط من فصائل المقاومة، قال المصدر "فصائل المقاومة كانت -وما زالت- تعبر عن طيف متنوع من العرب السُّنة، ولا تجمعها مرجعية واحدة قادرة على البتِّ القطعي برأي يعبر عن الجميع، لكننا بصفتنا فصيلاً مرجعيته إسلامية نرى أن التريث في هذه المرحلة هو الأَولى، وألا نستعجل الأحداث قبل قراءة الساحة الإقليمية قراءة عميقة ودقيقة، لا تجعلنا حصان طروادة لأحد، فنحن لا نقبل بأي وجود أجنبي على أرض بلادنا أياً كان، لكن المنطقة متوترة وهي على أبواب مواجهة تلوح بوادرها، ونريد أن نقدم مصلحة العراق في أي معادلة مقبلة".
وأشار المصدر إلى أن "احتمال تعاون بعض الأطراف من طيف المقاومة ليس مستبعَداً في هذه المرحلة، لأن إيران وعن طريق دبلوماسيتها النشطة بنَت جسوراً متينة من التواصل مع أطراف مختلفة في العراق ومحيطه، وهي تعرف نقاط ضعف وقوة كل طرف، وبناء على هذه المعرفة تقدم مغرياتها التي تخدم مصالحها في النهاية".
خبراء وسياسيون رأوا أن واجب المرحلة يستوجب اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر في التعامل مع الوجود الأمريكي الجديد، مطالبين المكونات السُّنية العربية في العراق بعدم تكرار "أخطاء الماضي"، وتحمُّل عبء مواجهة الأمريكان منفردين دون إجماع وطني، وهو الأمر الذي يعني ثمناً سياسياً باهظاً يوازي حجم التقدم الميداني إن تحقق.
الخبير الاستراتيجي العسكري العراقي صبحي ناظم توفيق رأى في حديث صحفي أن مواجهة القوات الأمريكية في هذه المرحلة لا يمكن أن تكون لمصلحة المكون السني.
وقال: إنَّ "ضرب القوات الأمريكية من قِبل فصائل المقاومة أو العشائر السُّنية الكريمة في الأنبار والموصل لا يصب في مصلحة المكون السني من الناحية الاستراتيجية، بل هو إن حدث فسيكون تكراراً لخطأ ارتُكب في بداية الاحتلال عام 2003 لغاية 2010".
وأضاف: "أنا لا أتصور أن إيران قادرة على تحريك فصائل المقاومة بالشكل الذي يمكن أن يتصوره البعض، فهي أكثر وعياً وحكمةً في فهم المتغيرات الدولية، ولا أستبعد أن يتحرك فصيل هنا أو هناك في إطار التوجيهات الإيرانية، علينا أن نعترف بأن هناك من تحركهم المصالح والمكاسب، وهم معروفون على الساحة، وإذا حصل مثل هذا التحرك فسيكون من قِبل هؤلاء".
وتابع العميد في الجيش العراقي السابق، قائلاً: إن "مقدار الضرر الذي يمكن أن تلحقه مثل هذه التحركات العسكرية من قِبل فصائل المقاومة لن يكون عميقاً ومؤثراً لمحدودية القدرات العسكرية التي يمكن أن تملكها، فأقصى ما يمكن أن تملكه صواريخ غراد التي لا يتجاوز مداها 12 كم، وقدرتها التدميرية عادة تكون محدودة".
واستدرك: "في المقابل، أتوقع أن يكون رد الفعل الأمريكي عنيفاً جداً، ويمكن أن يستخدم قوة تدميرية هائلة في مواجهة مصادر النيران التي ستكون مدن وقرى أهل السُّنة هدفاً لها، وهذه المناطق في الأساس مدمرة ولم تتعافَ بعدُ من آثار الحرب على داعش، وهو ما سيترك نتائج لا تُحمد عقباها، والمنطقة في غنى عنها".
من جهته، دعا محافظ نينوى السابق، والسياسي في كتلة "متحدون" العراقية، أثيل النجيفي، إلى الحذر وأخذ العبرة من التجربة السابقة.
وقال "في المرحلة الماضية قدَّم السُّنة التضحيات في مجابهة الاحتلال منفردين ثم لم يجنوا شيئاً، الاحتلال مرفوض ومستنكَر، لكن علينا أن ننظر إلى وضع أهل السُّنة السياسي، ووضع مناطقهم من الناحية الاجتماعية والمعاشية المتدهورة، ومن يدخل إلى هذا المعترك دون الأخذ بنظر الاعتبار هذه المعطيات فسيحقق أجندات الآخرين ومصالحهم".
وتابع بقوله: إن "هناك قراراً شيعياً واضحاً وصارماً يقضي بعدم الدخول في مواجهة مع الطرف الأمريكي في هذه المرحلة، لذلك سيدفعون باتجاه تحريك المجتمع السُّني ضد الأمريكان لتحقيق أمرين اثنين: الأول أن يبقى المجتمع السني في صف العداء للمنظومة الدولية وعلى رأسها أمريكا، ويبقى مصنَّفاً في خانة الإرهاب ومعادة الغرب؛ ومن ثم ليس أمام المجتمع الدولي إلا الشيعة للتفاوض".
وأضاف النجيفي: "المكسب الثاني الذي سيحققه الطرف الشيعي هو ضرب ما تبقى من قوة المكون السني في العراق بالقوة الأمريكية الجبارة، في حين سيجلسون هم للتفاوض وتقديم أنفسهم على أنهم الطرف المسالم الوحيد الذي يمكن التعامل معه".
وختم حديثه بالقول "علينا ألا نغفل أن هناك صوتاً سُنياً مرحِّباً بالوجود الأمريكي، ليس حباً بالاحتلال ولكن نكايةً بإيران وبالتهميش السياسي الذي فُرض عليهم، وأنا أعتقد أن الساحة السياسية السنية واعية تماماً إلى أن ما يجرى على الساحة العراقية صراع أمريكي-إيراني بالوكالة، وعلينا باعتبارنا سياسيين أن نأخذ موضعنا الصحيح من هذا الصراع بما يحقق مصالحنا، ولا نكون أداة سهلة بأيدي طرف مقابل طرف"
جدير بالذكر أن المدن ذات الغالبية السنية بالعراق اشتهرت بعد غزو البلاد عام 2003، بأنها من أخطر المناطق على قوات التحالف التي تقودها القوات الأمريكية، حين غزت البلد لتغيير نظام الحكم فيه.
ومن المعروف أن محافظات مثل الموصل وصلاح الدين وكركوك (شمال) والأنبار (غرب) وديالى (شرق) شهدت مناطق فيها معارك طاحنة بين القوات الأمريكية وما أُطلق عليها "المقاومة"، التي ظهرت عقب نجاح قوات التحالف في هزيمة القوات العراقية آنذاك؛ في دفاع مشروع ضد قوات محتلة، بحسب اعتقادهم.
إلا أن اضطرار القوات الأمريكية إلى مغادرة العراق عام 2011، تحت ضغط الخسائر المادية والبشرية، دفعها إلى تقديم السلطة للشيعة والأكراد نكايةً بالعرب السُّنة، وقد مارست القوى الشيعية المهيمنة على الحكم شتى أنواع التهميش والإقصاء والملاحقة والسجن ضد العرب السُّنة، وهو ما جعلهم في موقف الترحيب بالوجود الأمريكي هذه المرة؛ نكايةً بإيران والوضع السياسي الطائفي القائم.