ارتبطت صناعة مراكب المصريين القدماء بأفكار عن الخلود والسفر بالقوارب إلى السماء، ولذلك بذلوا جهدًا كبيرًا فى تصميم تلك المراكب التي تم اكتشافها مدفونة في مقابر الفراعنة. فكيف استطاعوا ذلك وكيف تمت تلك الاكتشافات الأثرية العجيبة؟!
يقول د.أحمد سمير، أستاذ الحضارة الفرعونية بجامعة القاهرة: اعتمدت الحياة في مصر القديمة على مياه نهر النيل كمصدر الرزق الوحيد الذي لا ينضب، ودوره كان ظاهرًا جليًا في تطور الحضارة المصرية باعتباره الشريان الرئيس والطبيعي لها؛ فمن خلاله تمكن المصريون من الترحال والسفر في إمبراطوريتهم الواسعة إلى السودان وأجزاء أخرى من أفريقيا وتصدير البضائع للأراضي البعيدة لتوفير الأموال اللازمة لاستيراد المنتجات المختلفة، مثل: الذهب والعاج والأبنوس والإلكتروم وريش النعام والبخور وكل ما يحتاجونه لتجميل المدن والمعابد.
وسكن المصريون بشكل رئيسي بطول ضفاف النهر العظيم، واستخدموه للتنقل والشحن منذ بداية ظهور حضارتهم ليصبحوا خبراء في بناء القوارب والإبحار في نهر محفوف بالمخاطر.
وقد خلقت دورة فيضان النيل فصولًا ممتازة للملاحة مع بعض الممرات المائية الرئيسية التي تفتح لفترات محدودة فقط، كما تسببت الأخطار التي تنجم عن انحسار مياه النهر في اهتمام القدماء المصريين ببناء القوارب؛ لأن الرياح المتغيرة والنهر المتعرج والعواصف المتكررة تطلبت قوارب قوية منتظمة السير، تتحمل حتى الصعوبات الفريدة من نوعها خصوصًا في الشلالات بصعيد مصر وبدايات نهر النيل في الدلتا، وكانت الزوارق المناسبة لتلك الظروف هي سر مواجهة تحديات هذا النهر.
ويقول د. حمدي السويفي، أستاذ الآثار الفرعونية: إذا تحدثنا عن القوارب في مصر القديمة، سوف نجد أن صناعة أول القوارب كان من قصب نبات البردي المزروع على نطاق واسع بطول نهر النيل والدلتا، ويوجد في وادي الحمامات بالقفط رسومات لتلك الحرفة التي قامت في مصر يعود تاريخها إلى 4000 قبل الميلاد، كانت معظم قوارب البردي صغيرة الحجم وتسير بمجاديف وساري. أما القارب النموذجي، فكان طويلًا ورفيعًا وله نهايات مدببة تبرز خارج المياه. وانحصرت استخدامات القوارب المصنوعة يدويًا من البردي في الرحلات القصيرة والصيد في البحيرات بالعصيان والشبكات أو الخشب المنحني، كما استخدمت أيضًا للألعاب الرياضية المنظمة والمسابقات.
ويضيف: لقد تعلم المصريون كيفية عمل سفن أكبر وأفضل من خلال استغلال إطار خشبي، للاستفادة من خشب السنط المحلي وخشب الأرز المستورد من لبنان، ولأنه لم يكن هناك وفرة في الأشجار الكبيرة، استخدموا الآلاف من الألواح الخشبية القصيرة، وبنيت القوارب دون مسامير حيث كانت تربط معًا بحبال مصنوعة من العشب أو غيرها من الألياف الطبيعية المماثلة وقاد المصريون القدماء قواربهم من خلال المجداف الكبير والدفة في نهاية القارب، كما صنعوا أشرعة عملاقة لاستغلال الريح عندما يكون تجاهها أعلى النهر على غرار الفلوكة التي نراها تبحر في النيل اليوم.
ويضيف د. حمدي: ولا توجد أدلة قوية عن كيفية بناء أول فلوكة، ولكن بغض النظر عن الطريقة التي يصنع بها القارب، فإن الفلوكة هي أكثر تلك القطع أهمية وروعة من الناحية الهندسية في ذلك الوقت. ففي غضون بضع سنوات تالية لاستخدام الفلوكة، صنع المصريون قوارب طولها ۳۰ مترًا وشرعوا في استخدامها. كانت سفن البضائع كبيرة وقوية، تبحر ذهابًا وإيابًا في النيل وإلى البحر الأبيض المتوسط للتجارة مع البلدان الأخرى وتميزت بالقدرة على حمل الكثير من البضائع، كما نقلت بعض السفن الأحجار الضخمة التي كانت تزن 500 طن من محجر الصخور إلى حيث مكان بناء الأهرامات.
ويقول د.عبدالحميد مصطفى، أستاذ التاريخ والحضارات بجامعة عين شمس: اعتقد المصريون أن الحياة الأخرى بعد الموت ستحتاج إلى قوارب کي يبحروا إلى السماء. ولذلك كانوا يدفنون نموذجًا مصغرًا من القارب مع المتوفى. أما الأثرياء والفراعنة، فكانوا يدفنون معهم قاربًا كاملًا، فعلى سبيل المثال احتوت مقبرة توت عنخ آمون على 35 نوعًا من القوارب.
قيل إن إله الشمس المصري سافر نهارًا عبر السماء على متن قارب وعبر العالم السفلي على متن قارب أيضًا في الليل
ورغم قلة ما وصل إلينا من تلك القوارب عبر الزمان، إلا أننا نعرف الكثير عن شكلها والغرض من صناعتها بفضل النماذج والرسومات المنقوشة على المقابر والمعابد بسبب أهميتها الدينية، فقد قيل إن إله الشمس المصري سافر نهارًا عبر السماء على متن قارب وعبر العالم السفلي على متن قارب أيضًا في الليل.
وفي عام 1950 شاهد أحد المهندسين أثناء عمله كمفتش للآثار في الجيزة، خطًا رفيعًا من قذائف الهاون التي رسمت حافة حفرتين ضيقتين وطويلتين لها طرف عند الجانب الجنوبي من الهرم الأكبر خوفو، حيث كان يتم حفر هذا المكان وتمهيده ليصبح طريقًا، وعندما حفر الرجال كشفوا عن 40 لوحاً ضخمًا من الحجر الجيري في الحفرة الشرقية و40 لوحًا في الحفرة الغربية، بالإضافة إلى علامات لمحاولات البناء مع قطعة خرطوش نقش فيها اسم "رع" خليفة الملك خوفو، ولم يهتم المسؤولون في البداية بتلك الحجارة واستغرق الأمر أربع سنوات حتى يقنع المهندس رؤساءه بأهمية البحث عن ماهية تلك الألواح.
ويضيف قائلًا: وفي 26 مايو/ايار 1954 بدأ الفريق في الحفر وتمكن من مشاهدة مجداف كبير لقارب مفكك بحجمه الكامل، كانت الحفرة قد أغلقت بإحكام ويبدو أن القارب كان محفوظًا بطريقة رائعة، كان مرتبًا في ثلاث عشرة طبقة مكدسة بدقة، بالإضافة إلى حبال من أجل الأشرعة والصواري وقطع من السجاد لتغطية سطح السفينة.
ويصل حجم القارب الشمسي إلى 43 مترًا من حيث الطول وعرضه 5,9 متر وغاطس بطول 1,48، وحمولة تقدر بنحو 45ألف طن، وبه مقصورة مركزية كبيرة بطول 9 أمتار ومظلة مفتوحة تدعمها أعمدة، وأخرى صغيرة في المقدمة والتي في الأغلب كان يستخدمها القطبان، وتقاد بخمسة أزواج من المجاديف. بالإضافة إلى زوج واحد في المؤخرة بمثابة دفة، وصنعت كل من مقدمة السفينة ومؤخرتها على شكل سيقان البردي كي تماثل القارب المصنوع من البردي عبر التاريخ المصري القديم.
وتقول النصوص الموجودة بالأهرامات إنه في نهاية حياة الفرعون على الأرض تصعد روحه إلى السماء في سفينة شراعية صغيرة لينضم إلى والده رع، وكان الجدال قائمًا حول ما إن كان هذا القارب يرمز لشيء معين أم لا، أم أنه جزء مما يخص الدفن أو يستخدم أثناء الجنازة لنقل جثمان الملك عبر النهر إلى مجموعته الهرمية؟
ورغم اكتشاف العديد من القوارب الخشبية القديمة الأخرى وأماكن وضعها في مصر، إلا أن القارب الشمسي لخوفو ما زال الأكثر إثارة من بين كل القوارب المصرية التي اكتشفت حتى الآن