كررت إيران، الثلاثاء الثاني من مارس (آذار)، التحذير من صدور قرار ضدّها في مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مؤكدة في الوقت ذاته التزامها الدبلوماسية لحل التباين في شأن الملف النووي، في خطوة تؤكّد حرص كل من طهران وواشنطن على عدم الظهور في موقع ضعف أمام خصمها، فتدخلان في مزايدات لاختبار الطرف الآخر، ولو أن ذلك يهدّد بتأخير العودة إلى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، الذي وعد الرئيس الأميركي جو بايدن بإنقاذه.
وعرضت الدول الأوروبية الثلاث المنضوية ضمن الاتفاق النووي المبرم مع طهران عام 2015، هذا الأسبوع، على مجلس حكام الوكالة، مشروع قرار تعرب فيه عن "قلقها البالغ" من تعليق إيران بعض عمليات التفتيش، وتدعوها إلى "الاستئناف الفوري" لكل برامج التفتيش المنصوص عليها في الاتفاق النووي.
وقلصت طهران عمليات التفتيش اعتباراً من الأسبوع الماضي، في ظل عدم رفع الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على الجمهورية الإسلامية اعتباراً من 2018، بعد قرار واشنطن الانسحاب الأحادي من الاتفاق الذي يضم إضافة إليها وإيران، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، لكن إيران أبرمت قبيل دخول هذا التقليص حيز التنفيذ، اتفاقاً تقنياً مع المدير العام للوكالة الدولية، رافايل غروسي، يتيح مواصلة بعض النشاطات لفترة تصل إلى ثلاثة أشهر.
وقال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، في مؤتمر صحافي، الثلاثاء، إن "هذا الاتفاق حمل رسالة واضحة لجهة حسن نيتنا ومنح الدبلوماسية فرصة. اليوم، نتوقع من الأعضاء المشاركين في خطة العمل الشاملة المشتركة (الاسم الرسمي للاتفاق النووي) اتخاذ خطوة متبادلة لإظهار حسن نواياهم".
لكنه حذّر من أن "الخطوات التي تعاكس توقعاتنا ستكون لها نتائج عكسية على المسارات الدبلوماسية، وقد تغلق سريعاً نوافذ الفرص"، مشدداً على أن إيران "تتوقع من كل الأطراف التصرف بعقلانية وحذر. نحن لا نزال نلتزم الدبلوماسية".
وفي مذكرة غير رسمية موجهة إلى الدول الأعضاء في الوكالة اطلعت عليها وكالة الصحافة الفرنسية، حذّرت إيران من أن القرار قد يدفع إلى "وضع حد" للاتفاق الموقت الذي تم إبرامه مع غروسي.
ووفق مصادر دبلوماسية في العاصمة النمساوية، سيتم طرح مشروع القرار الأوروبي المدعوم من الولايات المتحدة، على التصويت، الجمعة، غير أنه لا يحظى بالإجماع بين الأطراف الآخرين للاتفاق النووي، وفي طليعتها روسيا والصين.
وحذّرت موسكو من "إجراءات متخبطة وغير مسؤولة يمكن أن تقوض احتمالات العودة بشكل كامل للاتفاق في المستقبل القريب"، وفق ما كتب السفير الروسي ميخائيل أوليانوف في تغريدة.
وبعدما تركت واشنطن عالقة عشرة أيام، رفضت طهران في نهاية المطاف، الأحد، عرضها للدخول في حوار مباشر برعاية أوروبية، معلنة أن العرض "سابق لأوانه".
وجاء الموقف الإيراني رداً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، على غارات شنتها القوات الأميركية، الجمعة، على فصيل عراقي مسلّح مدعوم من طهران في سوريا، تتهمه بالوقوف خلف عمليات إطلاق صواريخ على مصالح أميركية في العراق، وكذلك الموقف الحازم الذي اعتمده الأوروبيون حيال مخالفة إيران بعض التزاماتها بموجب الاتفاق المبرم معها عام 2015 لضمان عدم سعيها لامتلاك السلاح النووي.
وإن كان الرفض الإيراني لا يعني نهاية السبل الدبلوماسية، إلا أنه يزيد من تعقيد الوضع.
وأعلنت الولايات المتحدة، الاثنين، أنها "تبقى على استعداد" للدخول في مفاوضات مع إيران، مؤكدة أنها ليست "متصلّبة" في ما يتعلق بـ"صيغة هذه المحادثات".
ورأت باربرا سلافين من "المجلس الأطلسي" للدراسات في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية، أن "الإيرانيين يريدون أن يثبتوا أنهم ليسوا في عجلة من أمرهم" للتفاوض مع الأميركيين"، مضيفة "أنها بالنسبة لهم طريقة ليقولوا: تشددون الضغط علينا؟ حسناً، بإمكاننا نحن أيضاً تشديد الضغط عليكم".
سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بلاده في 2018 من الاتفاق النووي معتبراً أنه غير كاف، وأعاد فرض عقوبات أميركية على طهران، فردت طهران بالتراجع تدريجاً عن العديد من التزاماتها الأساسية بموجب الاتفاق.
غير أن خلفه جو بايدن الذي تسلم مهام الرئاسة قبل شهر، أعلن عزمه على العودة إلى الاتفاق بشرط عودة طهران لاحترام كامل التزاماتها. وهو مصمم بأي ثمن على تفادي الظهور في موقف ضعف أو سذاجة.
ورأت تريتا بارسي التي صدر لها كتاب حول المحادثات التي أفضت إلى الاتفاق، أن ما تظهره المناورات الجارية أن "حكومة بايدن تحاول إعادة الاتفاق إلى السكة بصيغة لا تثير غضب الجمهوريين ولا الإسرائيليين ولا السعوديين"، خصوم إيران في المنطقة الذين يعارضون بشدة الاتفاق، مضيفة "هذا أمر مستحيل".
وسبق أن دفع هذا التصميم على إظهار القوة، البلدين إلى ارتكاب "أخطاء في التقدير" في الأسابيع الأخيرة، على ما لفت نائب الرئيس التنفيذي لمعهد "كوينسي إنستيتيوت فور ريسبونسيبل ستيتكرافت" للدراسات.
وقال إن إطلاق صواريخ في العراق للضغط على الأميركيين هو "خطأ هائل ارتكبه الإيرانيون"، في حين أن الرد العسكري الأميركي أعطى انطباعاً بأن ما تريده واشنطن بالمقام الأول هو "طمأنة السعوديين"، وهذا ما يهدد بإثارة استياء الإيرانيين أكثر.
ولم تقم إدارة بايدن حتى الآن سوى بمبادرات رمزية مثل التخلي عن المطالبة بمعاودة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران، وهو أمر رفضته الأمم المتحدة في مطلق الأحوال.
لكن حتى هذه الخطوة الصغيرة واجهت انتقادات لاذعة من ترمب، الذي اتهم الأحد خلفه بـ"التخلي عن كل وسائل الضغط التي بحوزة أميركا قبل بدء المفاوضات حتى".
ووجه عدد من القادة الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي رسالة إلى بايدن تحذره من تقديم أي تنازل مالي قبل بدء المفاوضات، وكتبوا أنه يجدر بالولايات المتحدة "عدم الرضوخ لأمر ملح أو لاستحقاقات مفتعلة" مثل الانتخابات الرئاسية التي تنظم في يونيو (حزيران) في إيران.
فهل وصل الحوار إلى طريق مسدود قبل أن يبدأ حتى؟
قد يبدو ذلك صحيحاً على ضوء جمود المواقف، إذ لا تزال طهران تطالب برفع العقوبات الأميركية قبل الدخول في مفاوضات، فيما تتمسك واشنطن بوجوب عقد اجتماع قبل القيام بأي بادرة.
غير أن المدافعين عن اتفاق 2015 يضغطون على الحكومة الأميركية لحلحلة الوضع، من خلال إعطائها مثلاً الضوء الأخضر رسمياً لكوريا الجنوبية للإفراج عن مبالغ مجمدة بقيمة مليارات الدولارات مترتبة عليها للإيرانيين، لقاء شراء شحنات من النفط، أو بالموافقة على قرض من صندوق النقد الدولي لإيران.
ورأى علي واعظ من مجموعة الأزمات الدولية في تغريدة، أن "الخيار الوحيد الممكن في المرحلة الراهنة يبدو أنه وساطة أوروبية"، لحمل "إيران والولايات المتحدة على حلحلة موقفيهما قليلاً من دون عقد اجتماع بينهما"، متحدثاً عن "تذاكر دخول" إلى مفاوضات مقبلة.
غير أن باربرا سلافين تؤكد "يجدر بإيران القبول بعقد اجتماع!" مشددة على أن ذلك لن يكون لا "تنازلاً" ولا "تقدماً". وتضيف "المسألة تتعلق بالولايات المتحدة وإيران، لا يكون ذلك في أي مرة سهلاً".