محمد الرميحي
المشهد السياسي الواضح أن هناك ضغوطاً أميركية هائلة على إيران تصنف أنها القصوى المتخذة ضد دولة في العصر الحديث، وهي ضغوط قد تخلخل النظام الإيراني في المدى المتوسط في حال استمرارها بالزخم نفسه.
في المقابل فإن إيران تواجه تلك الضغوط بضغوط مضادة، وحيث إنها ليست لها حيلة تجاه الولايات المتحدة، فإن جل ضغوط إيران توجه إلى مكانين؛ الدول الأوروبية عن طريق تصعيد عمليات تخصيب اليورانيوم، والجوار العربي.
من أجل تحقيق هدفين أساسيين؛ الأول تهدئة الرأي العام الداخلي بأن الإدارة الإيرانية ليست مستكينة؛ فهي تقوم بأفعال (تغضب الأميركيين)، والثاني تهديد مبطن لمن تعتبرهم حلفاء أميركا، وضرب الحليف يعني التقليل من قيمة الردع الأميركي.
على الصعيد الأوروبي لا نتيجة ترتجى، هي بمثابة إطلاق النار على الأرجل! أما على الصعيد الإقليمي فتستخدم إيران جماعات مؤيِّدة لها في بعض الجسم العربي للقيام بتلك الضغوط المضادة، وهي شرائح اجتماعية ضيقة ولكنها نشطة ومؤدلجة وتحاول إرسال رسائل بالوكالة لمن يهمه الأمر في الداخل الإيراني والخارج.
جُل تلك الشرائح عرب، سواء من (عرب الحمضيات) أو من (عرب التمر). تستخدم إيران تلك القوى من أجل تحقيق أجندتها، إلا أن ذلك الاستخدام كقارع الطبول؛ يثير كثيراً من الضجيج دون نتيجة تذكر على الأرض، هي فقط تشتري الوقت وتضيف إلى التصريحات (العنترية) من بعض قادتها السياسيين أو العسكريين حتى يسمعوا أصواتهم بآذانهم مع إضافات تجميلية.
البعض الموالي لإيران من (عرب الحمضيات) تم تقليص قدراتهم لمساعدة إيران حتى بالضجيج. إيران في لبنان لا تستطيع استخدام «حزب الله» الموالي لها لسببين؛ الأول والأقل أهمية أن السياسيين اللبنانيين الرسميين قد سمعوا من ممثلي الإدارة الأميركية كلاماً غليظاً نقلاً عن إسرائيل بأن أي عبث بالحدود من قبل الحزب فسوف يُقابَل بردة فعل إسرائيلية غير مسبوقة وهذا ما يردع جزئياً استخدام الحزب هناك.
أما السبب الأكثر أهمية وما يردع إيران كلياً من استخدام الحزب فهو الموقف الروسي، والذي نُقل على لسان أحد كبار مسؤوليه الأسبوع الماضي أن «لدينا صداقة مع إيران ولكن أمن إسرائيل له أهمية قصوى عندنا» إشارة إلى أن منسوب الصداقة الروسية قد يتراجع مع إيران في حال (الإخلال بالأمن الإسرائيلي).
وذلك آخر ما ترغب فيه إيران؛ مما يضيق مساحة المناورة الإيرانية في هذا الملف، خاصة أنها تواجه ضغوطاً من قبل روسيا وإسرائيل بسبب وجودها العسكري والسياسي في سوريا.
إذن فهذا الجانب من الضغوط المضادة يبقى معطلاً، والجانب الآخر لاستخدام ضغوط ما إيرانية هو تشجيع وتسليح الحليف الحوثي من (عرب البن) وقد استخدم الحوثي كل قدراته وإمكانياته حتى الساعة دون طائل، وهو الآن في مرحلة (الدفاع) وليس مرحلة الهجوم، بالطبع غير الضجيج القادم من قرع طبول ورفع الشعارات.
إن المساعدة التي توختها إيران هذه المرة من بعض شرائح (عرب التمر) كانت في العراق - وهي شرائح قليلة مؤتمرة مثل «حزب الله» في لبنان بأوامر إيرانية - يراها بعض المحللين العدول أنها «استزلام مصلحي وعمالة مقنعة» لبعض متوسطي القدرات من الساسة العراقيين.
من هناك أرسل ذلك البعض طائرات مسيّرة ومسلحة تجاه السعودية وكذلك قامت جماعات بحرق السفارة البحرينية في بغداد.
الذريعة كانت ورشة المنامة الخاصة بالوضع الاقتصادي الفلسطيني.
إنْ بقيت المقالات الشاجبة للورشة من بعض كتاب دول (الحمضيات ودول التمر) في حدود القول وإبداء الرأي حول ورشة المنامة فذلك يمكن فهمه، لكن الوصول إلى حرق السفارة يعني شيئاً آخر.
أريد هنا أن أفتح قوساً من أجل قول إن العراقيين بشكل عام قد خبروا التدخل العربي في شؤونهم بشكل سلبي، وينقل لنا عالم الاجتماع العراقي الكبير فالح عبد الجبار في كتابه القيّم «العمامة والأفندي» أن العراقيين في أواخر عهد صدام حسين قاموا بإطلاق النار من الخلف على ما عرف وقتها بالظهير العربي الذي أسسه وسلحه صدام حسين من العرب.
ولم يكن الشأن (الفلسطيني) لدى الساسة العراقيين المتعاقبين إلا شماعة لا أكثر لتحقيق مصالح ضيقة، فما بالك بالتدخل الإيراني؟ هنا قرأت المخابرات الإيرانية المشهد خطأ، فاعتقدت أن التحريض والمساعدة على حرق سفارة البحرين جزء من الضغوط الإيرانية المضادة تحت تلك الذريعة (فلسطين) في الوقت الذي أصدرت الحكومة السعودية مع توقيت الورشة في المنامة تأكيداً مجدداً على أنها مع حل الدولتين والمبادرة العربية والقدس الشرقية! قراءة فعل حرق السفارة على حقيقته تُظهِر (الاستخدام المراوغ) للقضية الفلسطينية.
مرة أخرى بمساعدة بعض القوى الفلسطينية التي دائماً تراهن على الحصان الخاسر.
والتبرير المنطقي لما سلف هو أنه إذا كانت القوى التي حرقت السفارة في بغداد غيّرة على فلسطين فكيف لا تقوم المجموعات نفسها بحرق أو حتى التحرش بسفارات لدول استقبلت على أعلى مستوى مسؤولين سياسيين إسرائيليين وسفارات لدول أخرى تتبادل العلاقات الدبلوماسية وسفارات لدول لها مصالح اقتصادية عظيمة مع إسرائيل (تركيا مثالاً على الأخيرة)! واضح أن الحرق لأسباب أخرى وليس من بينها (فلسطين)!! استخدام إيران للقضية التي تعرف عن حق أنها لصيقة بالشعور العربي العام لا يظهر في بغداد فقط ولكن في غزة أيضاً.
فنظير بعض قطع السلاح والمساعدات تنتظم قوى في «حماس» مع مشروع الضغط الإيراني، وهي بذلك تضحّي بالهدف الأسمى في سبيل هدف أقل وأكثر تواضعاً.
ملخص ما تقدم أن الضغوط الإيرانية المضادة بعضها معطل بالضرورة وبعضها غير فعال وأخرى مراوغة ولم يفتتن بها غير المعسكر الموالي للمشروع الإيراني. يعجز المسؤولون الإيرانيون عن فهم الشعور العربي السلبي والجارف تجاه مشروعهم في الحكم.
فهذه الحكومة العراقية، التي تحفظت - لحفظ التوازن - عن بعض نصوص بيان القمة العربية في مكة المكرمة آخر الشهر الماضي، تفصح عن موقفها وتشجب حرق سفارة مملكة البحرين وتعتبرها خرقاً لسيادتها، وأطلقت تلك التدخلات الإيرانية الفجة آلية عراقية لمحاصرة القوة العقائدية المسلحة خارج المؤسسات الرسمية والتابعة لإيران.
كما يعجز الإيرانيون من جانب آخر عن فهم المطالب العربية المحقة بألا تستخدم قضيتهم المركزية كمنصة انتهازية للمناورة تُمثل عليها إيران دور (المقاوم) وهي تعرف أن ذلك متعذر عليها في الداخل (مسيرات في إيران تشجب الانخراط في القضايا العربية وصرف الأموال عليها) ومتعذر عليها في الخارج - كما سلف شرحه - من محدودية الفعل على الأرض.
والموضوع الأهم هو عدم استيعاب (النظام الإيراني الكهنوتي) أن مشروعه لا يُقبَل من شرائح واسعة في المنطقة العربية حتى لو تخفى تحت شعار فلسطين! كما أن أشباهه من المشاريع إما سقطت أو في طريقها إلى التساقط والتحلل. ومن المؤمل أن يقوم الحكماء في الإدارة الفلسطينية - وهم كثر - بالطلب من الحكومة الإيرانية عدم (المتاجرة) بقضيتهم وأن تمتنع القلة منهم عن الاشتراك بتلك التجارة المحرمة. واضح أن مشروع الضغوط المضادة الإيراني هزيل لا يتعدى الصدى.
آخر الكلام:
يفسر الناس الأحداث حسب عدد كبير من المدخلات منها المصالح ومنها الخبرة ومنها الثقافة وفي كل الأحوال اليد المقبوضة لا تحسن المصافحة!
كاتب وباحث كويتي.