في 16 يناير 1979، غادر الشاه محمد رضا بهلوي إيران، في رحلة بلا عودة، انتهت به في القاهرة. بعدها بحوالي أسبوعين عاد آية الله الخميني، من باريس إلى طهران، في رحلة قلبت أوضاع إيران رأسا على عقب، وامتدت ارتداداتها إلى المنطقة الإقليمية، وحتى خارجها.
لم تنته هذه الارتدادات برحيل الخميني، بل أصبحت أقوى بعد خلافة آية الله علي خامنئي له، وهو الذي لم يقف طموحه عند تنفيذ وصايا الخميني فقط بل توسع ليصبح نسخة مركبة من ثراء الشاه المادي، حيث يتحكم في إمبراطورية اقتصادية ضخمة، ومن أيديولوجيا الولي الفقيه والإيمان بفكرة تصدير الثورة. ويلتقي ثلاثتهم (الشاه رضا بهلوي والخميني وخامنئي) عند فكرة مشتركة وهي عداء دول المنطقة والسعي إلى التمدد، وإن اختلفت الطريقة.
يوم 1 فبراير 1979، عاد الخميني إلى إيران التي استبدلت تاج الشاه بعمامة الولي الفقيه. لكن إيران اليوم، وبعد أربعة عقود من ذلك التاريخ تقف حائرة، فالوضع لم يتحسن بل ازداد سوءا وقمعا وفقرا، وأضحت الدولة التي كانت شرطي الغرب في المنطقة و”مدللة” الأميركيين دولة مارقة تسلط عليها العقوبات من كل جانب، يتباهى قادتها بقوة من ورق، يدعمون الميليشيات في الخارج بالمال والعتاد فيما يعاني أكثر من نصف البلاد من الفاقة والفقر والبطالة، يضاف إليهم القمع وغياب حرية التعبير والعيش ضمن نطاق مفرط في التشدد.
وعلى مدى سنوات، ظل الإيرانيون ينتقدون في صمت هذا الحال، إلا أن غضبهم انفجر في أواخر سنة 2017. وكانت لهذه الاحتجاجات سمات فريدة، وهي تختلف عن مظاهرات أخرى سابقة على غرار احتجاجات سنة 2009.
ويقول الباحث إحسان التبريزي إنه لم تكن لاحتجاجات 2017 قيادة ولا أي مطلب سياسي فوري، ولكن كانت هناك رسالة سياسية واضحة: فقد رفض المتظاهرون الجمهورية الإسلامية ككل. وترددت الشعارات الراديكالية، مثل “الموت لخامنئي” دون تردد.
وأظهر المحتجون -أغلبهم من الشباب- احتقارا لمؤسسة رجال الدين الشيعة من خلال هتافهم “الناس فقراء، بينما يعيش الملالي كالآلهة”.
وتعرضت المدارس الدينية التي تموّلها الدولة للهجوم وأشعلت فيها النيران، وتم تخريب حوالي 60 مكتبا لبعض أئمة الجمعة.
ومن اللافت أيضا أن بعض الشعارات استحضرت عهد الشاه، في توق لتلك المرحلة من الحرية والانفتاح، وإن كان مع الفقر، وأيضا نكاية بنظام رجال الدين، الذين أغرقوا البلاد في الفساد والفقر ودفعوا الإيرانيين إلى الاستمتاع بحياتهم وراء الجدران.
ولعل أكبر مظهر يترجم حالة الغضب الهتافات التي تعالت في مدينتي مشهد وقم المقدستين، حيث صاح المحتجون في مشهد قائلين “حيث لا يوجد شاه، لا يوجد نظام”. وكرر آخرون في قم “يا شاه إيران، عد إلى إيران”. وسمعت شعارات مماثلة في أصفهان.
لكن، ما فجر غضب الإيرانيين، لم يكن هذا القمع، الذي تعودوا عليه على مدى أربعة عقود، بقدر ما كانت الأموال التي تصرفها إيران على ميليشياتها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، ومما زاد أيضا من حنق الشباب الإيراني أن الأموال التي تم الإفراج عنها بعد توقيع الاتفاق النووي ذهبت إلى المصدر ذاته في حين لم يستفد منها الإيرانيون الذين عانوا من سنوات العقوبات، يلتقي هذا مع الأموال التي تصرف على الحرس الثوري وحالة الثراء في صفوف رجال النظام مقارنة بانتشار الفقر في المجتمع بشكل كبير.
هدوء يسبق العاصفة
انطلقت الاحتجاجات نهاية سنة 2017، واستمرت على امتداد سنة 2018، وإن بنسق أقل، لكن الخبراء يؤكدون أن الأمر لا يعني تراجعها أو نجاح النظام في قمعها، مذكرين بأن الثورة ضد الشاه انطلقت في سنة 1977، واشتدّت في سنة 1978 حين شلت الإضرابات والمظاهرات البلاد بين أغسطس وديسمبر 1978. ليغادر الشاه إيران إلى المنفى يوم 16 يناير عام 1979، ويعلن الخميني تأسيس الجمهورية الإسلامية في فبراير من السنة نفسها.
شهدت إيران أعلى معدل تصاعد في الاحتجاجات خلال 2018. وحذر نائب برلماني إيراني من أنه في حالة استمرار الوضع الحالي، سيجد النظام نفسه مشلولا مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتي. ويصف إيلان إي. برمان، الخبير في المجلس الأميركي للسياسة الخارجية، الاحتجاجات الشعبية في إيران بأنها دليل على استمرار هادئ للقوى المناوئة للثورة الإسلامية والتي استطاعت تحويل مطالبها إلى حركة تتحدى شرعية النظام الديني، رغم تجاهل وسائل الإعلام لها.
ويوضح أن مطالب المحتجين تجد صداها في تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد “فمؤشر التضخم في ارتفاع، ومعدل التضخم السنوي وصل إلى نحو 40 بالمئة. بينما أقر البنك المركزي الإيراني بمعدل تضخم يفوق 50 بالمئة خلال السنتين الماضيتين. وخلص بالقول إن الأوضاع الداخلية أسوأ مما قد تعترف به السلطات”.
وهذا يلقي بظلاله على أجندة إيران في المنطقة، حيث يؤكد الخبراء أنها اليوم تشهد تراجعا مقارنة بالطفرة التي حققتها خلال السنوات الماضية، مستغلة الأوضاع في المنطقة بدءا من الغزو الأميركي إلى العراق في سنة 2003، وتداعياته على البلد والمنطقة عموما، وصولا إلى ما أنتجه الربيع العربي من فوضى كان لإيران نصيب من ثمارها في سوريا واليمن، بالإضافة إلى أدوارها في لبنان وفي مناطق مختلفة من العالم. ومن المتوقّع أن تتراجع إيرادات النفط الإيرانية بمقدار النصف بحلول العام 2019، في أفضل الأحوال، وستكون لهذا التراجع تداعياته على الداخل الإيراني، كما على سياسات النظام الخارجية.
ويرى جان-فرانسوا سيزنك، الأستاذ المساعد في كليّة الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز، أن طموحات إيران في الشرق الأوسط تشمل تمويل الميليشيات العراقية وحزب الله في لبنان، ودعم نظام الأسد في سوريا، ومساعدة الحوثيين في اليمن. وفي الوقت نفسه، تعمد إيران إلى تسليح الفروع المتعدّدة من قواتها العسكرية والأمنية الضخمة.
وكلّ هذه الجهود كلّفت إيران عشرات المليارات من الدولارات، بيد أن مدخول إيران الذي يعتمد على النفط والغاز آخذٌ في الانخفاض. فالعقوبات الأميركية قد تقلّص حجم الصادرات النفطية الإيرانية إلى حوالي مليون برميل يوميا، ما قد يُفقد إيران أكثر من 32 مليار دولار من مدخولها.
وكتب جان-فرانسوا سيزنك، قائلا إن إيران، التي تعتزّ بأنها تملك أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم، تقف عاجزة عن توفير ما يكفي من العرض في السوق المحلّية، بسبب افتقارها إلى التكنولوجيا والاستثمار الأجنبي، وجهود إيران المتواصلة لتوسيع نفوذها في المنطقة تقوّض اقتصادها تماما.
ويذهب في السياق ذاته كريم باكرافان، الأستاذ المشارك في قسم الاقتصاد في جامعة دي بول، مشيرا في تحقيق لمركز كانريغي للدراسات، حول هل تملك إيران الوسائل لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، إلى أنه حتى من دون الهبوط الحادّ في حجم إيرادات النفط، لم تكن إيران تملك الوسائل الاقتصادية اللازمة لتمويل مساعداتها لنظام الأسد وحزب الله، وهما المتلقّيان الأساسيان للتقديمات الإيرانية السخية.
يُضاف إلى ذلك أن هذا الدعم لا يحظى بالشعبية في إيران إلى حدّ بعيد. مع ذلك، يُعتبر دعم الأسد وحزب الله عنصراً أساسياً في الإستراتيجية الإقليمية لعتاة النظام الإيراني. ومع الانسحاب الأميركي من سوريا، قد تسعى إيران إلى توسيع رقعة نفوذها، إلا أن ذلك قد يصبح مكلفا على نحو مطّرد، فيما المكاسب تقلّ تدريجيا، في وقت تقترب فيه الهموم الاقتصادية المحلية في إيران، التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة، من نقطة الغليان.
تغيرات مجتمعية
مثلما كسر المحتجون الإيرانيون حاجز الخوف من شرطة الشاه وقوته الأمنية، بدأت ملامح مشابهة تظهر على الشباب الإيراني الذي ولد في ظل النظام الحالي، إذ بدأ يكسر حاجز الخوف من الباسيج والحرس الثوري وكل القوة الأمنية والقمعية.
وإلى جانب الاحتجاجات، يمكن رؤية بوادر التمرد الاجتماعي بوضوح، فمثلا ترتدي بعض الشابات الحجاب لكن بشكل غير محكم، حيث تبدو غرتهن ظاهرة وبعضهن يتركنه ينزلق إلى أكتافهن. واشتهرت صورة لإيرانية، رأسها مكشوف، وتقف على أحد صناديق توزيع الهاتف وتلوّح بحجابها مثل العلم، خلال الاحتجاجات.
وقالت فائزة هاشمي رفسنجاني، في تصريحات صحافية، “لقد تغير الوضع. لقد وصل الناس إلى نقطة ليس لديهم ما يخسرونه فيها. عادة ما تخاف من الأشياء للمرة الأولى فقط. عندما تحدث هذه الأشياء لا تشعر بالخوف منها مرة أخرى، وتحصل على شجاعة أكثر، وتزيد من مطالبتك بحرية أكبر”.