بازبدە بۆ ناوەڕۆکی سەرەکی

العذابات الاخيرة لحياة رامبو

أرتور رامبو
AvaToday caption
عرفتنا إلى أحوال عائلة رامبو، فالوالد "الفارس في جوقة الشرف" بالجيش الفرنسي الإمبراطوري، كان شبه غائب عن المنزل
posted onJune 4, 2023
noبۆچوون

رامبو؟ أيعقل أن يتجاهل المرء صاحب هذا الاسم؟ أم هل يحسب شاعر عربي أو غربي في عصرنا لم يعترف بفضل هذا الشاعر الذي توفي شاباً (1859-1891)، وترك أعمالاً شعرية رهيبة وقصائد عديدة، ومنها "إشراقات" و"فصل في الجحيم"؟ إنه رامبو الذي قال عنه أنسي الحاج في مقدمة باكورته الشعرية "لن" إنه، أي رامبو، هو الذي وضع الأساس المتين لقصيدة النثر، وهو القائل إن اللغة الشعرية المتوخاة ينبغي لها أن تكون "لغة تختصر كل شيء، العطور والأصوات والألوان"، وأن على الشاعر أن يكون رائياً، يضحي بسويته الفكرية والنفسية والجسمانية، و"أن يسعى إلى تغيير الحياة، ما دام يمتلك الحقيقة جسداً وروحاً" وأن "يكون حديثاً تماماً".

ولعل هذه العناوين رفعتها الحركة السوريالية شعارات لها لدى انطلاقتها، أوائل القرن العشرين. ولم تلبث الحركات الشعرية الحديثة والمعاصرة في العالم أن رفعتها، أو استلهمت بعضاً من منطلقاتها ومبادئها الناظمة لعمل الشعراء والفنانين بعامة من أفكار رامبو.

في الرواية الجديدة بعنوان "الأيام الهشة" لمؤلفها الكاتب الفرنسي فيليب بيسون، والصادرة حديثاً عن دار المحيط للنشر، بترجمة الكاتب العراقي كامل العامري، تستعاد حياة الشاعر أرتور رامبو، بل الأشهر الستة الأخيرة من حياته القصيرة (37 سنة)، وقد عاد إلى مارسيليا، يوم 22 مايو (أيار) من عام 1891 لإجراء عملية جراحية في ساقه المصابة بالغرغرينا. على أن تتولى هذه الاستعادة إيزابيل رامبو، شقيقة الشاعر الكبرى، والمتعاطفة معه، بخلاف كل أفراد العائلة، الأم متزمتة، ومسلطة أحكاماً دينية عقابية على أبنائها ولا سيما أرتور، ومبعدة ابنها الأكبر عن العائلة لزواجه المخالف لإرادتها، وأخت متوفاة بالسل وهي لم تبلغ السبعة عشر ربيعاً. أما والده العسكري (ضابط المشاة) في صفوف الجيش الإمبراطوري فقد تخلى باكراً عنهم تاركاً للأم أن تتدبر شؤون عائلتها بشخصيتها الصارمة والشديدة، وعزمها الذي لا يلين.

ولكن ما عسى هذه اليوميات أن تكشف عن جوانب في حياة الشاعر مجهولة، وهو قد جاب نصف الكرة الأرضية في رحلات ومغامرات باشرها، منذ أن كان في عمر التاسعة عشرة؟ في حقيقة الأمر، تكمن فطنة الكاتب، فيليب بيسون، وذكاؤه في أن اليوميات المختلقة التي افترض قيام إيزابيل رامبو بتدوينها تضمنت أنواراً كاشفة عن الدوافع العميقة لكل من الشخصيات المعنية، ولا سيما رامبو، طفولته، وذكاؤه البارز، وميله إلى العزلة، ومغامرته الغرامية مع فيرلين الذي أصابه بطلق في ذراعه، وتوقه الشديد إلى السفر والاستشراق والاتجار - الفاشل - بالسلاح، في اليمن، والتمرد على السلطة القائمة، والميل الفطري إلى جانب الثوار، إبان كومونة باريس.

من حسنات اليوميات، ولا سيما إن كان الراوي فيها يبسط جانباً من سيرته الفردية وتلك المتقاطعة مع سيرة الجماعة، أنها تكشف عن المناخ العام السائد في العائلة. وهذا ما يصح على اليوميات التي جعلها الكاتب بيسون على لسان شقيقة الشاعر إيزابيل، إذ عرفتنا إلى أحوال عائلة رامبو، فالوالد "الفارس في جوقة الشرف" بالجيش الفرنسي الإمبراطوري، كان شبه غائب عن المنزل، ويحضر في مناسبات قليلة، على ما سبقت الإشارة اليه. وليس خافياً أثر ذلك الابتعاد في أرتور، الذي وإن يكن ناحلاً نحول المراهقة، رحل بدوره عن المنزل، وهو في الخامسة والعشرين، قاصداً تكوين ذاته العابرة للحدود والجدران التي لطالما انحصر فيها ببلدته روش، من أعمال الأردين.

ولكن الناظر إلى الأعماق التي بلغتها اليوميات، بقلم إيزابيل شقيقة أرتور رامبو، لا بد أن يخلص إلى أن في ذلك مبالغة لا تسيء إلى الصدقية الأدبية، ولا تخالف الوقائع المتصلة بسيرة الشاعر رامبو الحقيقية، وقد استعان الكاتب بيسون، على ما سبق أن أدلى به، بمراجع ثقات من مثل الكتاب الذي أنجزه الباحث جان جاك لوفرير، بعنوان "أرتور رامبو" الصادر عن دار فيار، وغيره. وإنما تصور لنا إيزابيل الشقيقة شخصية نموذجية على قدر عال من الحساسية والرقة والعذوبة والإدراك الواعي، والإيمان المنفتح على الآخرين من غير المؤمنين، ومنهم أخوها الشاعر أرتور، والمتعاطفة معه، والمتواصلة وإياه تواصلاً حميمياً يبلسم جراحه، أواخر أيامه من عام 1891. وليس أدل على ذلك من اليوميات بدءاً من 23 يوليو (تموز) وحتى أواخر أغسطس (آب) حين أعادته إيزابيل إلى مستشفى مارسيليا، بعد أن عاودته آلامه، وتبين للأطباء أنه لم يتبق له سوى أيام معدودة لتملك مرض السرطان في سائر أعضاء جسمه المتهالك.

في تلك اليوميات قدر كبير من التأملات في ماضي الشخص العائد لتوه من الغربة، ومن المتاه الذي اضطر إليه، وساقته اندفاعات الفتوة والشعر والرغبة في التجديد نحوه. وفيها تربط الراوية إيزابيل، ومن خلفها الروائي، بين أحداث يعرفها الشخصان، ومنها موت الأخت الأصغر فيتالي، والشعر الذي كان نتيجتها، أو بين تجارب خبرها أرتور وكان يبحث فيها عن "اللامرئي، وما يسبر غوره" (ص:67) وكان معينه فيها "االمواد الموجودة في الخشخاش" (ص:66) ونتيجتها قصيدة أو أكثر مثل "المركب السكران".

ومن أفضال تلك اليوميات التي دونت فيها الشقيقة إيزابيل محاوراتها الأخيرة مع شقيقها أرتور رامبو، أنها كشفت عن أمرين: أولهما أن علاقته بالشاعر بول فيرلين والتي انكشف أمرها بسجن الأخير لإطلاقه النار على أرتور وإصابته بذراعه، إنما كانت بدافع فورة عاطفية أو نقص عاطفي لم يقو على ملئه بسوى ما فعل. "المعاناة، معاناة الجسد، قد ينتهي بي الأمر إلى الاعتياد عليها، وإلى أن أجعلها رفيقة. سأروضها أو ستجرفني، لكن معاناة القلب، لا يمكن الاعتياد عليها أبداً. إنها غادرة، بل أكثر تدميراً. لا تحكمي عليَّ بسرعة...". (ص:73).

والأمر الثاني أن تلك اليوميات سمحت بتكوين صورة ولو تقريبية عن علاقات أرتور رامبو الغرامية وحياته العاطفية، إذ أوردت إيزابيل ما يفيد أن شقيقها كان قد أقام علاقة مع إحدى الحبشيات، أيام ترحاله وإقامته في اليمن، وأنه كان عازماً على الزواج من إحداهن قبيل عودته إلى مسقط رأسه روش، إثر العملية التي أجريت له في مارسيليا، وفيها بترت ساقه المصابة بالغرغرينا، وتقرر مصيره القاتم من خلالها. ومع ذلك، فإن ما حملته المحاورات العميقة بينه وبين شقيقته بينت انتصار الميل المثلي لديه على العلاقة الزوجية المتوخاة، إذ قال "لقد سبق لي أن أعلنت عن نيتي في الزواج من قبل، لكن جامي فجر هذا الترتيب الجميل... معه اكتشفت مجدداً الحماس والحمى والنيران الداخلية...". (ص:127).

ولكن الرسالة الخفية التي حملتها اليوميات، بصيغة الكاتب فيليب بيسون، والمنقولة بقلم شقيقة الشاعر رامبو، هي أن للتقوى والإيمان الديني لدى كل من الأم فيتالي رامبو وابنتها إيزابيل المكانة الأبرز، وبهما تؤولان المصائب التي راحت تتوالى عليهما، من انقطاع الأب عن عائلته، وموت الابنة الصغرى، إلى اتباع ابنهما أرتور سلوكاً منحرفاً، وإلحاده، وشذوذه (الجنسي)، وتأييده ثوار الكومونة الباريسية ذوي الميول اليسارية في حينه، المناهضة للأفكار والقيم التقليدية. ولئن كان الاختلاف واضحاً بين نهجين من الإيمان لدى كل من والدة أرتور، ذات الأحكام القاطعة والنهائية والمفضية إلى عزل المذنب (دينياً) والرضا بالعقوبة الربانية النازلة به، ولدى شقيقته إيزابيل، ذات المنهج الرحوم والحبي والمتغافل عن الأخطاء والساعي إلى تفهم الأسباب التي دعت شقيقها إلى هذا التصرف أو ذاك، فإن كلتيهما انطلقت من المنهل الديني الواحد، وكلتيهما ارتاحت لدى تقبل أرتور الاعتراف من الكاهن، وتقبل المسحة الأخيرة قبيل الموت، منه.

هي رواية، على شكل يوميات، وإن كشفت بعضاً من جوانب حياة الشاعر، فإنها طرحت الكثير من الأسئلة التي تحتم على القراء استجلاء الأجوبة عنها بقراءة أعماله وإبداعاته، مترجمة أو بلغتها الأصلية.