بازبدە بۆ ناوەڕۆکی سەرەکی

لبنان بين انفجاري المرفأ والمجتمع

مظاهرة للجالية اللبنانية في باريس
الصورة : كارزان حميد خاص لشبكة (AVA Today) الأخبارية
عبر اللبنانيون من جميع المكونات المجتمعية، وفي سائر المناطق والجهات اللبنانية عن تذمرهم مما آلت إليه أوضاعهم، وتحرّكوا في إطار ما عرف بثورة تشرين (أكتوبر/ 2019) التي رفعت شعار "كلن يعني كلن"
posted onAugust 11, 2020
noبۆچوون

عبد الباسط سيدا

خلّف انفجار، أو تفجير مرفأ بيروت نحو مائتي قتيل وآلاف الجرحى، ومفقودين تحت الأنقاض. ألحق أضراراً مادية كبيرة بغالبية أحياء بيروت، خصوصا القريبة من موقع الانفجار. وتسبب في بث الذعر الفردي والجمعي، واستحضر الهواجس المكبوتة في اللاشعور اللبناني.

قارن بعضهم هذا الانفجار بقنبلة هيروشيما في 6 أغسطس/ آب 1945، ربما رغبةً في توجيه أصابع الاتهام إلى أميركا أو إسرائيل؛ في حين أن آخرين تدخلوا سريعاً، ليقولوا إن من الأصح أن نقارن بين ما حصل في مرفأ بيروت وكارثة تشيرنوبل 26 إبريل/ نيسان 1986 التي حدثت بفعل الفساد الذي كان ينخر في جسم الاتحاد السوفييتي. وهناك من قارن بين قوة انفجار المرفأ وذاك الذي استهدف موكب رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، 14 فبراير/ شباط 2005، والذي تسبب كما هو معروف في مقتله و21 شخصاً آخرين.

وقد جاء انفجار مرفأ بيروت في خضم النتائج الكارثية لسيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية، بالتحالف مع التيار العوني الذي أخلّ بالتوازنات اللبنانية المعهودة، وساهم في ربط لبنان بمشروع إيراني إقليمي، لا مصلحة وطنية لبنانية فيه. وإنما هو مشروعٌ يستهدف زعزعة الاستقرار وتهديد الأمن في الإقليم بأسره، ويستنزف طاقات منطقتنا على صعيد الموارد الطبيعية والبشرية، ويسلّم مصير أجيالنا المقبلة إلى المجهول الذي لا يبشّر بأي خير، إذا ما استمرّت الأوضاع القائمة في مساراتها الحالية.

كان مرفأ بيروت يشكل ثقل المدينة الاقتصادي، ورمزها الحضاري الانفتاحي، فلبنان بلد يقوم على الاستيراد والتصدير؛ وللمرفأ أهمية قصوى في هذا المجال. وليست هذه الخاصية بالنسبة إلى لبنان طارئة، بل كانت على مر العصور منذ أيام الفينينقيين، وربما قبلهم. وتؤكد الشواهد التاريخية، بكل وضوح، صلات الفينيقيين مع أوروبا عبر قبرص واليونان، كما تؤكّد وصولهم إلى سواحل شمال أفريقيا، وما زالت المدن الأثرية في ليبيا وتونس تشهد على إنجازاتهم الحضارية، فلبنان بطبيعته قائم على الانفتاح والصلات التجارية، وتبادل المصالح بصورة سلمية، ولكن مصيبة لبنان الذي كان يتباهى يوما بأن قوته تكمن في ضعفه أنه تحول إلى ساحة لأصحاب المشاريع العابرة للحدود، وأصبح ميداناً لتصفية حسابات الآخرين وتوافقاتهم على حسابه، ومن دون إعطاء أي اعتبار لمصالح اللبنانيين من جميع الانتماءات وتطلعاتهم.

لقد تمكّن حزب الله من السيطرة على الدولة اللبنانية بدعم كامل من النظامين، السوري والإيراني، وتحت شعار المقاومة، وذلك بعد أن تمكّن من إخراج كل الفصائل اللبنانية الأخرى من الساحة، وهي الفصائل التي كانت قد سبقته في التصدّي علنا للاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، ولبنان بصورة عامة. ولكن يبدو أن صفقة بين النظام السوري وإسرائيل قد تمت في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، مباشرة أو غير مباشرة، المهم أنها تمت، وحُددت بموجبها قواعد الاشتباك، وأسلوب التسويق، والخطوط الحمراء. ولم يكن النظام الإيراني، لاحقاً، بطبيعة الحال بعيداً عن الطبخة، وذلك بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية، قيادة وقواعد، من الساحة اللبنانية بالقوة، سواء من الجانب الإسرائيلي في معركة بيروت صيف 1982، أم من نظام حافظ الأسد في معركة طرابلس ديسمبر/ كانون الأول 1983.

ليس سراً أن المنطقة تشهد حالة انسداد الآفاق أمام اي حل سياسي مطلوب لتجاوز الواقع المضطرب الذي تعيشه منذ عقود. وقد بلغ هذا الاضطراب، في يومنا هذا، ذروته نتيجة التصادم الحاد الجاري بين توجهات الإدارة الأميركية الحالية والمشروع الإيراني الذي من أهدافه إضعاف الدول العربية المجاورة والهيمنة عليها، وحتى الهيمنة على تلك الدول التي تعتبرها إيران ضمن مجالها الحيوي، وهي تستغل في ذلك الورقة المذهبية بغرض بلوغ أهداف سياسية توسعية، لم تعد مراميها وأبعادها خافيةً على أحد.

وقد أصبح الوضع اللبناني غير السوي جزءاً من الوضعية مسدودة الآفاق التي تعيشها دول عديدة في المنطقة، سورية والعراق واليمن تحديداً، وهي الدول التي تشهد صراعاً بين الإرادات الوطنية والمشروع الإيراني التوسعي الذي يصطدم، بطبيعة الحال، مع مصالح دول المنطقة العربية، كما ويتعارض مع توجهات السياسية الأميركية والإسرائيلية في ظل واقع تغيّر المعادلات الإقليمية والدولية، واحتمالات المواجهة متعدّدة الميادين بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.

وكان من الملاحظ باستمرار وجود رغبة دولية، وإقليمية، في المحافظة على الوضعية اللبنانية كما هي، والحرص على احتواء العوامل التي من شأنها تفجيرها. ولكن في ظل إصرار الجانب الإيراني، عبر حزب الله، على تحميل لبنان بما يفوق طاقته بكثير، والاستمرار في نهج قضم الدولة، والدفع بالقوى المجتمعية والسياسية اللبنانية التي هي خارج الحكم نحو زاوية المقهورين، كان هناك ضغط دولي عبر الإجراءات الاقتصادية والتضييق على حزب الله وشرايين الدولة الاقتصادية التي باتت، في حكم الواقع، تحت سيطرة الحزب المذكور. ومع تراكم نتائج الفساد المزمن الذي تميزت به الدولة اللبنانية منذ عقود، سيما ما يتعلق منها بالسيطرة على المعابر، وتجارة الممنوعات، والهيمنة على الاقتصاد الموازي، وذلك بالتنسيق مع النظام السوري، وبرعايةٍ وإشرافٍ مباشرين من النظام الإيراني؛ بلغت الأوضاع المعيشية الصعبة أصلاً في لبنان إلى الحد الكارثي، الأمر الذي تجسّد في مزيد من التأزم والتشنج على الصعيدين المجتمعي والسياسي.

وقد عبر اللبنانيون من جميع المكونات المجتمعية، وفي سائر المناطق والجهات اللبنانية عن تذمرهم مما آلت إليه أوضاعهم، وتحرّكوا في إطار ما عرف بثورة تشرين (أكتوبر/ 2019) التي رفعت شعار "كلن يعني كلن" الذي جسّد مطالبة الناس بضرورة رحيل كل الطبقة السياسية الفاسدة، سواء التي هي في الحكم، أم التي استفادت من الحكم. وقد تزامنت تلك "الثورة" مع التحرّك الشعبي في العراق، ومثّل ذلك كله تهديداً جدّياً للمشروع الإيراني التوسعي. ولكن محنة جائحة كورونا، من ناحية، وتحرّكات الأذرع الإيرانية وممارساتها ضمن المجتمعين، العراقي واللبناني، أسهما في الحد من ضراوة الاحتجاجات، من دون أن تعالج أسبابها، أو أن تقنع الناس بعدم مشروعية ما يطالبون به. ثم عادت الاحتجاجات الشعبية في لبنان بقوة في أعقاب الانفجار "اللغز" الذي حصل في المرفأ، الانفجار الذي دمّر نحو ربع بيروت، وعرّى زمرة الحكم حتى من ورقة التوت، وأسقطها أخلاقياً وشعبياً قبل سقوطها السياسي. ما يؤكد أن اللبنانيين قد وصلوا مع هذا النظام الفاسد إلى نقطة اللاعودة، ولم تعد كل الجهود التخديرية، سواء من الخارج في هيئة مساعدات لن تصل إلى مستحقيها، أم من الداخل في صيغة "فهلوات" ممجوجة، قادرة على إقناعهم بإمكانية إصلاح مجموعة الحكم التي تعاني حتى النخاع من الفساد السرطاني الذي تسببت فيه بنفسها وتستفيد منه، وذلك على حساب معاناة اللبنانيين، وعلى النقيض من تطلعاتهم المشروعة. وقد جاءت استقالات نواب مسيحيين لتؤكد أن التغطية المسيحية لنظام حزب الله قد انتهت صلاحيتها، ولا بد من صيغة جديدة لوّح بها الرئيس الفرنسي، ماكرون، في زيارة "المواساة" التي أحرج بها مجموعة الحكم. ولكن في الوقت ذاته أتاحت الزيارة المعنية للناس فرصة التعبير عن مشاعرهم بمزيد من الحرية والصراحة.

ويتمركز الاهتمام اليوم حول مرحلة ما بعد تفجير مرفأ بيروت. وتتعدّد النظريات والآراء في هذا المجال. هناك من يرى أن ما حدث كان نتيجة فعل تخريبي، شبيهٍ، إلى حد ما، بسلسلة الحرائق والتفجيرات الغامضة التي باتت من الظواهر المألوفة في إيران. ويرى أصحاب نظرية أخرى أنه ليس من المستبعد أن يكون الجانب الإيراني، بالتنسيق مع حلفائه، هو من تسبب في الانفجار، وذلك بالتزامن مع الموعد الذي كان من المفروض أن تعلن فيه المحكمة الخاصة بملف اغتيال رفيق الحريري قرارها. وربما تكون هناك رغبة إيرانية في دفع الأمور نحو مواجهةٍ مع الأميركان بشروط إيرانية في مناخات الانتخابات الأميركية التي تشهد جدالاً عميقاً بين الديمقراطيين والجمهوريين، وفي أجواء تفاقم نتائج أزمة وباء كورونا التي تعصف باقتصاد البلاد.

هل سيلوذ اللبنانيون بالمثل الشائع: "اشتدّي يا أزمة تنفرجي"؟ أم أن الفرج ما زال بعيد المنال، طالما أن حزب الله يتحكّم بالدولة والمجتمع، وطالما أن الصواريخ التي يمتلكها قادرة ليس على تفجير لبنان، بل والمنطقة كلها؟ لا حل أمام اللبنانيين من دون إبعاد بلدهم، قولاً وعملاً، عن اصطفافات المنطقة واستقطاباتها. أما أن تظل دولة لبنان بقيادة حزب الله وواجهاته التزيينية الفولكلورية في دائرة المشروع الإيراني، فهذا معناه أنها تقف في مواجهة شعوب المنطقة ودولها في معركةٍ لا يستطيع لبنان تحمّل تكاليفها وأعبائها، كما أنه لن يتمكّن من تحمّل مسؤولية نتائجها التي لن تكون قطعاً في صالح اللبنانيين، كل اللبنانيين، ومن دون أي استنثاء، بل هي معركة الآخرين على الأرض اللبنانية، وبالأدوات اللبنانية بكل أسف.