طوني فرنسيس
تحركت الولايات المتحدة الأميركية فور اندلاع حرب غزة، اهتزت إدارتها كما لم تهتز من قبل، وذهب رئيس الدولة بنفسه إلى إسرائيل وسبقه ولحقه وزراء شاركوا في الاجتماعات القيادية السياسية والعسكرية وتصرفوا كجزء من المعركة، وضعوا التصورات وقدموا النصائح، وأطلقوا ضوءاً أخضر لا محدوداً للعملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وسرعان ما انضمت القوى الغربية الكبرى في أوروبا إلى موجة الانخراط الأميركي دعماً لإسرائيل ودفاعاً عنها.
لم تقف الأمور عند حدود التضامن اللفظي، وحشدت الولايات المتحدة جيوشاً في البحر المتوسط والخليج وحذرت من أي تدخل في المعركة الدائرة، وكان التحذير موجهاً مباشرة إلى إيران وميليشياتها المنضوية ضمن إطار "محور المقاومة" الذي تتولى طهران تمويله وتسليحه وقيادته، لكنه تحذير يذهب أبعد من ذلك، ليطال ضمناً روسيا والصين، لحثهما على عدم التصعيد ونصح "شريكتهما" الإيرانية بذلك.
فهمت "غزوة حماس" لدى حصولها بأنها ترجمة للخطاب العسكري الإيراني السائد والمتصاعد "فلسطينياً" منذ أشهر، ولم يكن التضامن الأميركي الهائل مع إسرائيل مفاجئاً لكن حجم التفاعل الإيراني كان محبطاً لدى الذين أمضوا زمناً وهم يسمعون مفردات وحدة الساحات وغرف العمليات المشتركة.
مع تصاعد الرد الإسرائيلي في غزة وأثمانه المرتفعة كان مستوى هذا الإحباط يزداد، إلى أن بات حالة سائدة مع بدء الاجتياح البري الإسرائيلي الذي اعتبره الراعي الإيراني سابقاً خطاً أحمر لن يسمح بتجاوزه.
لم يحصل الصدام الأميركي- الإيراني، ولم تستعرض طهران صواريخها الجديدة من نوع "سليماني" المخصصة لتحرير القدس، وزادت في المقابل وتيرة الحديث عن رسائل أميركية - إيرانية متبادلة تتصل بحرب غزة مباشرة ومنها ما هو أبعد من ذلك.
يرى عوفر شيلح في صحيفة "هارتس"، أن التحرك الأميركي السريع لمصلحة إسرائيل "لا ينبع فقط من صدمة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أو الخوف من أن إسرائيل غير قادرة على الدفاع عن نفسها، بل يدل على رؤية واسعة (مسبقة) للولايات المتحدة" لمستقبل حضورها في الشرق الأوسط.
الرؤية المسبقة تجسدت في عدم تخلي أميركا في أي لحظة عن التفاوض مع إيران، وآخر هذه المفاوضات تمت لتبادل المحتجزين، وأفرجت أميركا في نتيجتها عن ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية، قبل أن تتيح لاحقاً، في خضم معركة غزة، للعراق، أن يدفع لإيران كلفة الطاقة المستوردة منها.
في الأثناء، وقبل الحرب، بدأت الولايات المتحدة مفاوضات مع السعودية حول حزمة من العلاقات الثنائية والإقليمية من ضمنها إيجاد حل للقضية الفلسطينية على قاعدة القرارات الدولية والمبادرة العربية وقيام الدولتين.
انسحبت أميركا من أفغانستان، لكنها لاحظت ولاحظ حلفاؤها أن طهران تواصل تطوير "ترسيخ موقعها كقوة إقليمية عظمى"، تابعت برنامجها النووي والصاروخي، وعززت قواتها البحرية وأرسلتها إلى بحار بعيدة، وعملت على تحسين أسلحتها المضادة للطائرات، إضافة إلى تطوير صناعة المسيرات العسكرية وتصديرها.
ترافق ذلك في الأشهر الأخيرة مع ترتيبات لتحسين عمل الميليشيات التابعة التي صارت لها غرفة عمليات مشتركة في "ساحات موحدة" تعمل رسمياً لهدفين، الأول طرحه المرشد بعد اغتيال قاسم سليماني، وهو طرد أميركا من "غرب آسيا"، والثاني تحرير القدس وفلسطين والانخراط في معركة الفلسطينيين على أرض بلادهم.
تحت هذين العنوانين نشطت إيران وأجهزتها طوال السنوات الثلاث الماضية، حركت جماعتها في العراق لضرب القواعد التي تؤوي عسكريين أميركيين، ودعمت الحوثيين في اليمن بصفتهم " قوة تتحكم بالملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب"، بحسب ما عممت أجهزتها بعد اندلاع الحرب الفلسطينية، ولم تخف اهتمامها الكبير بدفع الفلسطينيين إلى خوض معارك ضد إسرائيل.
مع ذلك حرص الأميركيون والغربيون على إعفاء إيران مبكراً من تخطيط وقيادة هجوم "حماس" وبادلتهم القيادة الإيرانية بالمثل، عندما تنصلت من المسؤولية على لسان المرشد خامنئي، وانتظرت أياماً طويلة قبل أن تشرح على لسان الأمين العام لـ"حزب الله" حدود "تضامن" محور المقاومة مع معركة "حماس".
كان يمكن للصورة أن تكون مغايرة لو انخرط "المحور" في تلك العملية تزامناً على كل الجبهات، أو لو لم تستعجل الولايات المتحدة توجيه رسائل الحزم السياسي والعسكري دعماً لحليفتها إسرائيل.
في أوساط غربية معنية يسود اعتقاد كرسته صور ميزان القوى الحالي، أن إيران غير مستعدة للتضحية بمكاسب كبرى حققتها في الإقليم من أجل معركة غير مضمونة في فلسطين، فهي تمسك بالعراق، وغير منزعجة في سوريا، ومواقعها قوية في اليمن ولبنان.
بعد اندلاع حرب غزة خرج محللون إيرانيين إلى القول، إن إيران لم تعد تعتمد مجرد ميليشيات حليفة، فهي طورت عملها مع تلك الميليشيات بدفعها لتصبح جزءاً من حكومات الدول. هكذا تتحدث إيران الآن عن العراق وسوريا ولبنان واليمن بوصفها دول "مقاومة" وليست دولاً تتحكم بمفاصلها ميليشيات تديرها إيران، من خارج الدساتير والقوانين، وهذه طريقة صريحة للتنصل من المسؤولية التحريرية الكبرى.
أكدت الحرب في غزة، بعد شهر ونصف على اندلاعها في وتيرة دموية غير مسبوقة، قدرة الردع الأميركي من جهة والحدود التي لن تتخطاها طهران من جهة ثانية، وكشفت عن أن حدود الخطط الإيرانية تقف في الجوهر عند مصلحة استمرار النظام بصفته القومية الخمينية. إنها المصالح الصافية للنظام قبل أن يتم إدخال الصادرات "الثورية" إلى فنائها الخلفي.
بهذا المعنى تصبح مفهومة الرسائل المتبادلة مع الأميركيين، التي يتحدث عنها المسؤولون الإيرانيون كثيراً، إنها بالنسبة إلى الأميركيين الذين لم يعلنوا يوماً عن رسائل ثنائية، مواصلة للضغط الموازي للمفاوضات، وفي الظروف الراهنة هي تحذير مباشر بعدم الانخراط.
من الجهة الإيرانية يبدو أن الرسائل وصلت وجرى إعداد صياغة الردود بما لا يزعج إسرائيل وخصوصاً أميركا، والردود التي باتت معروفة يمكن اختصارها بالتالي:
تكليف الميليشيات التابعة بسلسلة هجمات مضبوطة تبقي إيران خارج مضبطة الاتهام.
كتب المحلل الإيراني هادي خسرو شاهين، أن إيران تعمل بكل الطرق لدعم ردودها على الرسائل الأميركية: "حلفاؤها المنتشرون من شرق البحر الأحمر إلى شرق البحر المتوسط (تحركوا) وتحركت قواتها في سوريا" في خطوة أولى، أما خطوتها الثانية ففي الهجمات ضد الوجود الأميركي في سوريا والعراق لمحاولة زيادة كلفة الحفاظ على القوات الأميركية"، أما الخطوة الثالثة فتكمن في "دخول حزب الله والحوثي وفيلق بدر في الحرب"!
من الواضح من الرسائل الإيرانية هذه، أن طهران تريد أن تنأى بنفسها عن المعركة، بالاعتماد على ميليشياتها، وفي التجربة حصل ذلك، تحرك "حزب الله" في لبنان ضمن حدود إطلاق بضعة قذائف يومياً ضد مواقع إسرائيلية، ترد عليها إسرائيل ضمن حدود باتت مرسومة جيداً، ومن اليمن يحاول الحوثي تجربة مسيرات وصواريخ لا تغير في مجرى المعركة، وفي العراق تتحرك الفصائل الإيرانية فتقصف على الأغلب قواعد تؤوي الأميركيين في سوريا!
لماذا في سوريا؟ ولماذا اكتفاء "حزب الله" بوجبة القذائف اليومية؟ تلك ربما حصيلة رسائل وتفاهمات مرسومة على حد النار، لا يمكن من الآن التكهن بمدى صمودها، أحد الدبلوماسيين قال، عندما يستهدف الأميركيون في العراق ستتغير أمور كثيرة. حتى الآن ترغب الميليشيات الإيرانية بالعمل في الأراضي، ومع ذلك، وعلى رغم حرية حركتها هناك، بحثت عن طريق إلى القدس عبر الأردن!
إنها الرسائل المتاحة في حدود حفظ ماء الوجه وعدم القتال من أجل غزة.