تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

جاك بريل يتنفس موسيقى برئة واحدة

جاك بريل
AvaToday caption
"وصل جاك بريل إلى باريس" ففهم كثر أن شاعر الأغنية الفرنسية الكبير والذي كانت نهايته قد أعلنت غير مرة، يريد أن يقول ما يبدو أنه لم يقله بعد
posted onSeptember 2, 2023
noتعليق

كان جاك بريل قد اختفى عن الأنظار، منذ خريف عام 1975، حين وصل به مركبه الشراعي الأنيق إلى جزيرة هيفا أوآ في "مجاهل" المحيط الهادئ ومعه صديقة من أهل تلك المنطقة يسميها دودو، صبية تتولى الاعتناء به. كانت الجزيرة تبعد نحو 1200 كيلومتر إلى الشمال الشرقي من تاهيتي وهو وصلها كي يرتاح من آلام العمليات الجراحية التي كانت أجريت له وانتهت باستئصال إحدى رئتيه، كان من الواضح عليه أنه لا يبالي بذلك، كل ما يهمه هو أن يخلد إلى الراحة بعيداً من العمل والصحافة والناس. وبالفعل، تمكّن من الحصول على ذلك حتى وإن كان سيأخذ الطائرة أول العام التالي 1976 بناء على طلب صديقه الموسيقي والمغني مورت شومان كي يصوره هذا الأخير في بعض مشاهد فيلمه "جاك بريل على قيد الحياة" وهو جالس في حانة يؤدي أغنيته الأشهر "لا تتركيني أبداً"، وهو ما إن انتهى التصوير حتى عاد إلى مركبه مصرحاً لمن حوله "الآن سأعود إلى البحر والسماء والهواء النظيف المنعش، وسطها سوف أنهي أيامي، فالموت لا يخيفني، الموت هو العدالة الحقيقية"، وهو بالفعل سيمضي الأشهر التالية يتنقل بمركبه بين الجزر الصغيرة مع صديقته متجولاً مبتسماً مختلطاً بالسكان المحليين، غير عابئ بأية أخبار تصله من "العالم المتمدن" غير مبد أية رغبة في العودة إليه.

ولكن في خريف عام 1977، نشرت الصحافة الفرنسية نبأ وقع كالقنبلة: "وصل جاك بريل إلى باريس" ففهم كثر أن شاعر الأغنية الفرنسية الكبير والذي كانت نهايته قد أعلنت غير مرة، يريد أن يقول ما يبدو أنه لم يقله بعد، يريد أن يقول كلمته الغنائية - الشعرية الأخيرة، وهؤلاء كادوا ينسون على أية حال أن ذلك الفنان الكبير حتى وإن كان سيصارع كي يسجل أغنيات جديدة ولو برئته الوحيدة التي تبقّت له بعد استئصال الأخرى التي ضربها الداء العضال، فإنه لن يقوى حتى ولو عاش طويلاً برئة واحدة على غناء المزيد، ومن هنا، ما إن انتشر الخير حتى انهالت الطلبيات على شركة الإنتاج التي تنشر أسطواناته عادة بحيث تجاوزت الطلبيات مئات الألوف حتى قبل أن يسجل بريل وموسيقيوه ولو أغنية واحدة في الأستديو الأنيق والمغرق في حداثته الواقع في جادة هوش بالدائرة الثامنة الباريسية، ولكن بعد سلسلة من التمرينات أجريت في شقة صديقة بريل المغنية "الوجودية" الكبيرة جولييت غريكو. وهناك جمع بريل رفاق عمله المعهودين من موسيقيين وتقنيين إضافة إلى إدي بيركلي منتجه المعتاد، وبدءاً من أكتوبر (تشرين الأول) التالي، بدأ العمل الجدي في الأستديو، وكانت بداية شديدة الارتباك بحسب ما سيروي كاتبو سيرة الشاعر - المغني الكبير لاحقاً. فالموسيقيون لم يكونوا التقوا به منذ زمن، والخلصاء كانوا يعرفون أن في انتظاره نهاية ما، ومن هنا كان ثمة شجن يسود اللقاءات الأولى.

وحده جاك بريل بدا وكأنه خارج تلك اللعبة، كان يضحك طيلة الوقت ويمازح الرفاق، لكنه ذات لحظة إذ تنبّه إلى أن هؤلاء عاجزون عن مجاراته وبالكاد يمكن للواحد منهم أن يرسم ولو ابتسامة خجولة على شفتيه انتفض ذات لحظة وصرخ بهم (متصنعاً الغضب بالتأكيد): ماذا أفلم تلتقوا يوماً برجل له رئة واحدة؟ أفلم تروا في حياتكم رئة من قبل! والحقيقة أن ذينك السؤالين تمكنا من إحداث قلبة عاطفية مرحة وراح التسجيل يجري بهدوء وتبعاً للمرح المعتاد، مرح راح يحلو لرفاق بريل القدامى مقارنته بأيامه الأولى حين كان قبل ربع قرن وأكثر من ذلك، في بروكسل ثم في باريس يتأبط قيثارته البائسة شاباً خجولاً يقدم أغنياته الأولى مثل "يمكنها أن تمطر" و"جاك الكبير" و"الشيطان" و"في الساحة" و"الباستيل" و"حين لا يكون لدينا سوى الحب"، مقارنته بما صار مخزونه الفني طوال العقود التالية وبعد أن بات بفضل ذلك المخزون واحداً من شعراء الأغنية الكبار في العالم، وواحداً من نصف دزينة يحسبون سادة الأغنية الفرنسية من دون منازع، إلى جانب جورج براسانس وليو فيري وإيف مونتان وجان فيرا وشارل أزنافور ومعادلتهم الأنثوية الكبيرة إديث بياف طبعاً.

كانت رحلة غريبة ومدهشة تلك التي عاشها بريل على رغم سنوات نشاطه القصيرة، رحلة مزروعة بنحو 120 أغنية و11 فيلماً ومثلها من الكوميديات الموسيقية، ولكن في نهاية الأمر سيكون لافتاً دائماً أن النجاحات الكبيرة لم تتحقق لبريل إلا في مجال الأغنية التي كان واحداً من مبدعيها وليس مغنياً فقط بل شاعراً وملحناً أيضاً على طريقة أولئك الكبار من "التروبادور" المعاصرين الذين عرفوا وحدهم ولا سيما في سنوات الـ 60 كيف يصمدون في مواجهة أغاني البوب المستوردة من إنجلترا المجاورة، والـ "يي يي" الشبابية، تلك الأغنيات المتحدرة من الجاز والروك والكاونتري على الطريقة الأميركية والتي انتهت إلى وصم "تروبادور" أنغلوفونيين كبار من طينة ليونارد كوهين وكذلك بوب ديلان الفائز الوحيد من بينهم جميعاً بجائزة "نوبل" أدبية سيكون هو أول من يقرّ بعدم استحقاقه لها، والحقيقة أن ما كان يجمع غناء بريل بكل هؤلاء وربما حتى بغناء البيتلز الآتين من صفوف الطبقة العاملة في ليفربول، كانت النزعة الإنسانية الشاعرية والشعبية التي تطبع كل ذلك الغناء، وتحديداً قبل أن تطغى مع اقتراب القرن الـ21 تلك النزعة البهيمية التي تطبع اليوم معظم ما يغنى في العالم، ولا سيما في "الغناء" العربي الحديث حيث تحولت الأغاني إلى صرخات حيوانية توضع لتلائم الغناء بالسيقان، لكن هذا موضوع آخر ليس مكانه هنا بالطبع، ما يهمنا هنا هو العودة إلى تلك الدزينة الأخيرة من أغنيات جاك بريل.

فهي كانت الأخيرة بالفعل لأن الفنان لم ينتج بعدها أي غناء جديد، أولاً لأنه سوف يرحل عن عالمنا بعد أشهر قليلة من نزول الألبوم إلى الأسواق وفي وقت كان معجبوه وهواة الفن الحقيقي يتخاطفون الملايين الثلاثة الأولى من النسخ التي ستباع خلال أيام من نزولها، وربما فقط استجابة للطلبيات المسبقة عليها، ولسوف تكون دهشة أولئك الذي سيتخاطفون الألبوم والآخرين الذين لم يتمكنوا من الحصول عليه فاكتفوا بالاستماع مراراً وتكراراً إلى تلك الدزينة من الأغنيات التي راحت الإذاعات تبثها ليلاً ونهاراً من دون هوادة، سوف تكون الدهشة كبيرة من ناحية لأن تلك الأغنيات تبدّت أقوى من كل ما غناه بريل حتى الآن إذا استثنينا إنتاجاته الكبرى مثل "لا تتركيني أبداً" و"العجائز" و"شكوى العشاق القدامى" وغيرها من تلك الروائع التي أقلّ ما يمكن قوله عنها إنها عرفت كيف تلامس روح الإنسان وحبه وآلامه، وهو ما جعل الأغاني الأخيرة تبدو، إلى جانب كون بعضها ("الفلامنكيون" مثلاً و"الأسد" ربما) نوعاً من تصفية حساب شخصي من ناحية مع نصف الشعب البلجيكي ومن ناحية ثانية مع الحياة الزوجية، وصية تتناول كل ما سبق لبريل أن تناوله كصورة لفكره وحياته، فمن الحب وخيباته وآلامه (في "أورلي" التي تصور فراق حبيبين في المطار الباريسي) إلى الصداقة الحقة (في "أن ترى صديقاً يبكي") إلى المسألة الدينية (في "الإله الطيب") إلى المعركة الأبدية بين الرجال والنساء (في "تحصينات فارصوفيا") وصولاً إلى الشيخوخة في تلك الرائعة المتعلقة بالحياة "أن تشيخ"، ثم بخاصة ذلك التكريم الذي ختم به فنه، وقريباً حياته، لجزر المركيز التي كانت وطنه الأخير الذي سيرحل عنه إلى الأبدية بعد أشهر قليلة.

كل هذا جعل من تلك الدزينة من الأغنيات، إلى كونها نوعاً من تصفية حساب مع كل شيء، أشبه بوصية أخيرة من فنان التقط الحياة كما هي راضياً قابلاً بما خصته به، لكنه أعادها وقد فارقها بجسده وروحه، مختلفة في الروح والإحساس عما كانت عليه بفضل فنه والفنون المشابهة له. ترى أوليس هذا دور الفن، نعني الفن الحقيقي، في هذا العالم الذي نعيش فيه. العالم الذي لولا الفن لكان جماداً بائساً لا أكثر؟