في الأيام الماضية القليلة ألقى اسم المبعوث الأميركي للشأن الإيراني روبرت مالي بظلاله على جل الأخبار المتعلقة بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه إيران والمفاوضات الجارية مع النظام الإيراني.
الممثل الخاص لإدارة بايدن في الشؤون الإيرانية، الذي عرف عنه أنه أهم الشخصيات التي تعاملت مع طهران خلال العام الماضي، ألقي اللوم عليه في جميع التعاملات مع النظام الإيراني، وتدخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) للتحقيق معه حول "كيفية استخدامه للمستندات السرية".
لم تتضح بعد تفاصيل الاتهامات الموجهة لروبرت مالي، ولا تزال لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي تحاول الحصول على معلومات في هذا الخصوص من وزارة الخارجية الأميركية التي لا ترغب في التعاون معها، وما نشر حتى الآن من تقارير في الأساس تستند إلى تكهنات وسائل الإعلام ومصادر مجهولة، وحظيت باهتمام كبير لدرجة أن "طهران تايمز" وهي إحدى المطبوعات التي تطبع في إيران، بدأت تتحدث عن وراء الكواليس وقصة روبرت مالي.
ما أعلن بشكل رسمي هو ذهابه إلى إجازة ونقل مسؤولياته كافة إلى نائبه إبرام بيلي، والأخير شخص غير معروف ولم يسبق له أن تحدث عن إيران حتى وإن كان رأياً عاماً، ومن سجله الوظيفي أنه عمل مع عدد من المسؤولين في إدارة بايدن مثل نائبة الرئيس كامالا هاريس، وحالياً حلت صورة بيلي على حساب "تويتر" للمبعوث الأميركي الخاص بالشؤون الإيرانية روبرت مالي.
بعيداً من ملف روبرت مالي، الذي لن يكشف عن جميع زواياه في المدى المنظور في الأقل، فمن المهم بمكان فحص وفهم العملية والأهداف التي أدت إلى أن يتحول من شخصية لامعة إلى شخص محترق.
ومن الملاحظ أنه هناك من يعتقد أن إقصاء روبرت مالي من منصبه إشارة إلى تغيير في نهج إدارة بايدن في تعاملها مع إيران.
روبرت مالي عضو الفريق الذي يترأسه الممثل الحالي لإدارة الرئيس بايدن لشؤون المناخ وزير الخارجية في إدارة الرئيس باراك أوباما جون كيري، الذي تفاوض على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) مع النظام الإيراني برئاسة وزير الخارجية الإيراني آنذاك محمد جواد ظريف.
إضافة إلى جون كيري وروبرت مالي، فإن جل أعضاء فريق التفاوض لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع النظام الإيراني يشغلون حالياً مناصب رئيسة في إدارة جو بايدن، بدءاً من جيك سوليفان الذي يشغل منصب مستشار الأمن القومي، مروراً بوندي شيرمان التي تعتبر من أهم الشخصيات التي عملت في إدارة أوباما لإبرام الاتفاق النووي مع طهران وتشغل منصب نائب وزير الخارجية في رئاسة بايدن حالياً، وكذلك وليام بيرنز الذي كان يشغل نائب وزير خارجية مع أوباما ويتولى رئاسة وكالة المخابرات الأميركية (CIA) حالياً، إذ قال قبل ذاك إن "شيب نصف شعر رأسه في المفاوضات النووية مع النظام الإيراني".
في الواقع القائمة طويلة، وكانت ظهرت شخصيات على الفور بالتوازي مع بدء المفاوضات خلف الكواليس للتوصل إلى اتفاق مع النظام الإيراني، وعلى سبيل المثال لا الحصر إلين إير أول متحدثة للوزارة الخارجية الأميركية التي كانت تتحدث اللغة الفارسية، وشاركت في المفاوضات النووية "خطة العمل الشاملة المشتركة"، إلا أنها اختفت بعد توقيع الاتفاق النووي بين الجانبين الإيراني والأميركي.
ربما الشخصيات التي كانت ضمن فريق التفاوض النووي لإدارة باراك أوباما والموجودين حالياً في مختلف أقسام إدارة بايدن ليسوا مثل روبرت مالي في تعامله مع النظام الإيراني، إلا أن معظمهم من الراغبين في التعامل مع طهران كما كانوا في المفاوضات النووية.
تحدثت وندي شيرمان في مذكراتها التي نشرت بعد توقيع الاتفاق النووي، قائلة إنها لا تزال تتلقى بطاقات عيد الميلاد من نائب وزير الخارجية الإيراني آنذاك عباس عراقجي، مضيفة أنها ذرفت الدموع أمامه عندما رأت أن الاتفاق تعثر، وذلك حتى يتراجع ويأتي إلى طاولة المفاوضات، ويقول عنها المتحدث باسم الخارجية الأميركية إن "وندي شيرمان ملمة بالسياسة الإيرانية".
نيكولاس برنز الذي قال عنه وزير الخارجية السابق علي أكبر صالحي، إنه كان حاضراً في الاجتماع التشاوري الأول بين نائب وزير الخارجية الأميركي ونظيره الإيراني في عهد حكومة محمود أحمدي نجاد وبموافقة المرشد الإيراني، يعتقد برنز أن "إيران ليس لديها الرغبة في أن يكون لها برنامج نووي عسكري".
برنز يشغل حالياً أهم وكالة استخبارات في إدارة بايدن، ويصبح هذا الدور أكثر أهمية عندما تحدثت وكالة "ABC News" في تقرير لها نقلاً عن وكالة الاستخبارات الأميركية، أن إيران في الوقت الحالي ليس لديها الرغبة في صناعة القنبلة النووية، واللافت في الموضوع أن التقرير الاستخباري يتناقض كلياً مع وكالات الاستخبارات الأوروبية التي قالت في أحدث تقاريرها إن طهران على وشك إجراء أول تجربة نووية.
جيك سوليفان، الذي كان أحد أعضاء فريق التفاوض لإدارة باراك أوباما مع النظام الإيراني، وعين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 مستشاراً للأمن القومي في إدارة بايدن، قال "إننا نرغب في إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لإعادة إيران لالتزاماتها"، ويعتبر سوليفان من المسؤولين الذين يدعون إلى أن يكون الاتفاق مع النظام الإيراني على مراحل مختلفة.
قد يكون المنصب الحالي الذي يشغله جون كيري، وهو ممثل الرئيس بايدن لشؤون المناخ، ليس له صله بالمفاوضات الجارية مع طهران، لكنه ذلك الشخص الذي ذكر في تقرير لموقع "واشنطن فري بيكون" عام 2018 أنه التقى وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في مقر إقامته في نيويورك، وذلك بهدف تقويض سياسات حكومة الرئيس السابق دونالد ترامب.
قبل ذلك قال ترامب في أكثر من مناسبة إن المسؤولين السابقين في إدارة باراك أوباما يقدمون للإيرانيين استشارات، ويطلبون من النظام الإيراني عدم الاتفاق مع حكومتي حتى يتمكن الديمقراطيون من العودة للسلطة.
وفي الملف الصوتي الخاص بجواد ظريف الذي سرب مطلع عام 2021 قال فيه إنه سمع من جون كيري أن إسرائيل هاجمت المصالح الإيرانية أكثر من 200 مرة في سوريا، كما أن جون كيري صرح أنه التقى ظريف في أكثر من مناسبة بالنرويج وميونخ، وكذلك عدد من الاجتماعات الدولية الأخرى بعد انتهاء عمله كوزير للخارجية الأميركية.
هذه اللقاءات يراها بعض منهم أنها انتهاك لقانون لوغان الأميركي، وهو قانون يحظر على المواطنين غير المخولين التفاوض مع حكومات أجنبية لها خلاف مع الولايات المتحدة، والغاية من وضع هذا القانون منع إضعاف موقف حكومة واشنطن، ويعتبر جريمة يعاقب عليها المخالف.
وفي وقت ازدادت فيه التكهنات بإقصاء روبرت مالي من منصبه، برز اسم المنسق لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك أكثر من غيره في القضايا التي تتعلق بإيران.
وعلى رغم النظرة الإيجابية لدى بعض منهم مقارنة بروبرت مالي، فإن لبريت ماكغورك دوراً في سياسات البيت الأبيض تجاه إيران، إذ إنه عمل على عملية التبادل الخاصة بأسد الله أسدي، المتهم بالتخطيط لعمليات تفجيرية على الأراضي الأوروبية، في مقابل عدد من المواطنين الأوروبيين ذوي الجنسية المزدوجة، وكذلك الإفراج عن مليارين و700 مليون دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في العراق، في وقت كان فيه روبرت مالي في إجازة.
إن إدارة بايدن وحتى قبل الاحتجاجات الشعبية الأخيرة التي اندلعت ضد النظام في إيران كانت تتعرض لانتقادات نظراً إلى إصرارها على المضي قدماً في تفاعلها مع طهران، ومع ازدياد هذه الضغوط خلال الاحتجاجات بدأت المحاولات لتوجيه أصابع الاتهام إلى روبرت مالي، وبرز اسمه في وسائل الإعلام أكثر من غيره بدلاً من المجموعة كلها أو إدارة بايدن.
وفي الأشهر القليلة الماضية أفادت بعض وسائل الإعلام، ونقلاً عن مصادر مجهولة، باجتماعات سرية بين روبرت مالي ومسؤولي النظام الإيراني، وأنها حدثت في وقت كانت فيه الاحتجاجات في أوجها والشوارع تعج بالمتظاهرين الإيرانيين، ولم يعرف بعد إذا ما كانت هذه الاجتماعات بقرار من روبرت مالي شخصياً أو مجموعة من صناع القرار في الشؤون الإيرانية بإدارة الرئيس بايدن هي من قررت أن تلتقي بمسؤولي طهران.
وعلى أية حال هذا هو السبب الرئيس وراء إقصاء روبرت مالي من إدارة بايدن، وأنه أصبح بيدقاً محترقاً.
روبرت مالي وقبل أن يقصى سياسياً من الديمقراطيين أدى واجباته في التعامل مع النظام الإيراني على أكمل وجه، وتجاهل الصادرات النفطية الإيرانية التي وصلت، وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إلى أعلى مستوى لها في السنوات الخمس الماضية، واستئناف المفاوضات مع طهران والإفراج عن بعض السجناء مثل باقر نمازي ليس سوى جزء بسيط من التفاعل بين إدارة بايدن وطهران.
روبرت مالي قيد التحقيق حالياً، ليس بسبب قيامه بهذه المهمات وحسب، بل يبدو أنه نقل معلومات سرية إلى النظام الإيراني، وبالطبع لم يتم الإعلان أو إثبات أنه فعل هذا بالتأكيد حتى هذه اللحظة، وهذا لا ينفي المسار العام الذي اتخذته إدارة بايدن في تعاملها مع طهران.
ينتمي روبرت مالي إلى المجموعة والعقلية نفسها التي تتشكل منها إدارة بايدن، التي ترغب في التعامل الدبلوماسي مع النظام الإيراني لصد تهديداته حتى وإن كانت موقتة.
الرئيس الأميركي جو بايدن والمسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية أعلنوا منذ اليوم الأول وبوضوح تام أنهم يرغبون في إبرام اتفاق مع النظام الإيراني، وما زالوا يؤكدون أن الدبلوماسية هي الخيار الأفضل في التعامل مع طهران، وبالتالي فإن إدارة بايدن ما زالت تتعامل وتبرم الاتفاقات غير المكتوبة محاولة منها لخفض التوتر مع إيران، لعل وعسى تحقق الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024.
وعليه للتنبؤ باستمرارية النهج الذي اعتمدته إدارة بايدن تجاه إيران، ربما يتعين علينا أن نعيد قراءة تغريدة الممثل الأميركي الخاص لشؤون إيران إبرام بالي، الذي شغل هذا المنصب لفترة قصيرة، إذ قال فيها "سنواصل العمل مع حلفائنا للحد من سلوك إيران المزعزع للاستقرار والدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك تعزيز وقف التصعيد واستتباب الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط"، هذه العبارة النمطية تكررت مرات عدة على لسان مسؤولي إدارة بايدن!
وفي الجزء الآخر من تغريدة بالي التي أكد فيها الدور الذي تلعبه وزارة الخارجية الأميركية في السياسة الإيرانية، التي تضم شخصيات مثل وندي شيرمان، وأنه "سيظل مكتب الممثل الأميركي الخاص لشؤون إيران والمسؤولون العاملون في الخارجية مشاركين في تنفيذ سياستنا تجاه طهران".