خیرالله خیرالله
ليست الهزيمة الروسيّة الجديدة في أوكرانيا، وهي هزيمة تتمثل في الانسحاب من مدينة خيرسون الإستراتيجية، هزيمة شخصيّة لفلاديمير بوتين فحسب، بل هي أيضا هزيمة للمحور الإيراني – الروسي. ما كان خافيا على بعض الذين كانوا يميّزون بين النظامين في روسيا وايران، صار واضحا كلّ الوضوح في ضوء استعانة بوتين بالمسيّرات الإيرانية كي يكمل حربه في أوكرانيا، وهي حرب لا مبرر لها أصلا.
بعد تسعة اشهر من بداية الحملة العسكريّة التي شنّها فلاديمير بوتين على أوكرانيا، يبدو المستقبل السياسي للرئيس الروسي مطروحا أكثر من أيّ وقت. يتبيّن ان حسابات الضابط السابق في جهاز الإستخبارات السوفياتيّة (كي. جي. بي) الذي يتولى ادارة أمور بلده منذ اصبح رئيسا للوزراء في العام 1999، لم تكن من النوع الدقيق. لم يتابع حربه على أوكرانيا فقط. قرّر متابعة الهروب إلى أمام مرتميا في الحضن الإيراني.
يعود فشل روسيا في أوكرانيا الى عوامل عدّة. في مقدّم هذه العوامل صمود الاوكرانيين المتمسّكين، في معظمهم، بهويتهم الوطنيّة من جهة وتميّز كنيستهم الارثوذكسية عن الكنيسة الارثوذكسية الروسية من جهة أخرى.
صحيح ان الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي يهودي، لكن الصحيح أيضا ان لا عيب من ايّ نوع في ذلك. اكثر من ذلك، تدلّ يهودية زيلنسكي، الممثل الكوميدي السابق، على الوجه الحضاري لاوكرانيا ومجتمعها ومدى بعدها عن تهمة "النازيّة" التي سعى بوتين والمحيطون به الى الحاقها بها.
ثمّة عوامل أخرى جعلت حسابات الرئيس الروسي في غير محلّها. لعلّ من بين اهم هذه العوامل رد الفعل الأوروبي والدولي على التصعيد الروسي في أوكرانيا. التصعيد الذي لجأت إليه موسكو الى الإعلان عن وضع الترسانة النووية الروسيّة في حال تأهب. أرعب ذلك أوروبا عن بكرة أبيها.
لكن يبقى الاهمّ من ذلك كلّه انّ هناك استنفارا المانيا في وجه روسيا وبوتين. قد يكون الخطأ الألماني من بين أكبر الأخطاء التي ارتكبها بوتين بعدما اعتقد ان دولة مثل المانيا لا يمكن ان تذهب بعيدا في التصدي لروسيا. ظنّ الرئيس الروسي ان اعتماد المانيا، اعتمادا كبيرا على الغاز الروسي، سيجعلها تتخذ موقفا مترددا من غزوة أوكرانيا. لم يحدث شيء من ذلك، تبدو المانيا في الوقت الحاضر مستنفرة الى ابعد حدود.
للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، تفكّر المانيا في إعادة بناء قوتها العسكرية وهي خصصت مئة مليار يورو لتحقيق هذا الهدف. في ضوء السياسة البوتينيّة وما تثيره من مخاوف.
عزلت روسيا نفسها عن العالم، لا شكّ أيضا ان التقرّب من الصين لم يكن رهانا رابحا نظرا الى ان لدى بيجينغ حسابات خاصة بها. ستستفيد الصين الى حد كبير من ايّ ضعف روسي، خصوصا انّ لديها حدودا مشتركة طويلة مع الدولة الجارة. لديها "مصلحة في تعرّض الاقتصاد الروسي لهزّة قوية كي يزداد اعتماده على الصين"، حسب تعبير خبير قديم في الشؤون الروسية، عرف الاتحاد السوفياتي من قرب وعاش فترة ما بعد انهياره.
توجد حاجة الى معرفة هل لا يزال في استطاعة فلاديمير بوتين التراجع والبحث عن تسوية كان في استطاعته الوصول اليها بمجرّد حشد قوات على طول حدود روسيا مع أوكرانيا. مثل هذا التراجع اكثر من ضروري في ضوء المخاطر التي يعيش في ظلّها العالم. بدل التراجع، ذهب بوتين إلى الإستعانة بإيران كاشفا المزيد من نقاط الضعف الروسيّة. في مقدّم هذه النقاط عدم الحماسة لدى الشعب لخوض حروب خارج حدود بلدهم... وتخلّف السلاح الروسي، إضافة، في طبيعة الحال، إلى أنّ الجيش الروسي ليس مهيّأ لمواجهة جيش يمتلك حدا ادنى من التنظيم والأسلحة الغربيّة الحديثة.
لم يترك فلاديمير بوتين امامه سوى خيار التصعيد في وقت ترغب الولايات المتحدة في تحديه، خصوصا ان بعض مطالب بوتين تبدو من النوع غير الواقعي وتتجاوز اوكرانيا. بكلام أوضح، اثبت فلاديمير بوتين، عبر كلّ ما قام به، بما في ذلك مشاركته منذ العام 2015 في الحرب على الشعب السوري، قبل عدوانه على أوكرانيا، انّه شخص خطير جدّا. لا حدود للتصعيد الذي يمكن ان يذهب اليه الرئيس الروسي، خصوصا بعد قصفه العشوائي لمدن اوكرانية وتسبّبه بتهجير مليوني مواطن اوكراني في اقلّ تقدير...
الأكيد ان الرئيس الروسي، الذي يعتقد ان لديه القدرة على التعايش مع العقوبات التي فرضت على روسيا، سيجد نفسه مضطرا الى البحث عن صيغة لتسوية ما، على غرار ما فعل الزعيم السوفياتي خروتشوف في العام 1962 الذي تورط في أزمة الصواريخ التي سعى إلى إرسالها إلى كوبا. من يجد مثل هذه الصيغة لفلاديمير بوتين الذي يتبيّن يوما بعد يوم انّه اسير عقد كثيرة؟ يعود معظم هذه العقد إلى أنّ الرئيس الروسي لا يعرف العالم ولا يعرف معنى غزو دولة أوروبيّة وابعاد قرار في غاية الخطورة في مستوى الهجوم على أوكرانيا بالذات.
هل من يريد توفير صيغة تنقذ ماء الوجه لبوتين؟ لا يبدو ذلك واردا. ما يبدو واردا، في غياب آلية لإزاحته من موقع الرئاسة، كما كان يحدث في الإتحاد السوفياتي حيث كان المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم يحاسب، متابعة التصعيد. سيتكل بوتين اكثر فأكثر على ايران التي فشلت مسيّراتها في إنقاذه والتي يعاني النظام فيها من أزمة داخليّة عميقة. لا يغطي على هذه الأزمة، وإن مؤقتا، غير النقاط التي تسجلها "الجمهوريّة الإسلاميّة" في بلد اسمه العرق استطاعت ان تنفذ فيه انقلابا حقيقيا صبّ في مصلحة ميليشياتها المذهبيّة ومشروعها التوسّعي.
عاجلا أم آجلا، لن يقتصر الأمر على مصير فلاديمير بوتين ومصير حلفه مع ايران. ما سيطرح في ضوء هزيمة خيرسون مستقبل روسيا والفضاء الروسي الذي يشمل دولا عدة خرجت من الإتحاد السوفياتي لكنها ما زالت تتأثر به. لن يكون مستقبل بوتين على المحكّ بمقدار ما سيكون مستقبل روسيا ودورها في هذا العالم أيضا.