اتصلت ابنة سارة بها من المدرسة منذ شهر تقريباً. كانت الصبية ذات السبعة عشر عاماً مرعوبة، إذ انبعثت رائحة غازات سامة داخل مدرستها الثانوية في قم، مدينة الحوزة العلمية والأضرحة. وعانت زميلاتها الصداع والدوخة والغثيان، فيما أصيبت بعضهن بحالات إغماء. أرسلت سارة سيارة أجرة لتعيد ابنتها [أدراجها] إلى المنزل. ولم تقصد الفتاة المدرسة منذ ذلك اليوم، بعد أن دب الذعر في كل أرجاء البلاد جراء ما يسميه البعض الهجمات المتسلسلة بالسم على طالبات المدارس في إيران.
وتقول سارة التي طلبت عدم نشر اسم عائلتها "إنها خائفة جداً من الذهاب إلى المدرسة، وأنا أخاف أن أرسلها إلى هناك. لا نعلم ما الذي يحصل، ومن الذي يرتكب هذه الأفعال. لماذا مدارس الفتيات؟ ولماذا الآن؟".
جهة ما، أو أمر ما يصيب طالبات إيران بالمرض، فيما يعاني نظام يدعي أنه يستمد شرعيته من البارئ لكي يسيطر على الغضب الشعبي. ألحقت عمليات التسمم مزيداً من الضرر بسلطة زعماء إيران ومشروعيتهم المتآكلة أساساً. وتكشف هذه الأزمة أيضاً انعدام الثقة الكبير بين النظام الإيراني والشعب.
بعد أسابيع من التزام الصمت والتقليل من أهمية الوضع، وحتى اعتقال أولياء الأمور، اعترف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الأسبوع الماضي، بالأزمة بعد طول انتظار، وتعهد التحرك [معالجتها].
وفي خطاب أدلى به يوم الأربعاء الأول من مارس (آذار)، صرح بأن "متابعة هذه القضية والتحقيق العاجل في حيثياتها بالغ الأهمية"، زاعماً بأنه وجه أمراً إلى وزارة الصحة والأجهزة الأمنية التابعة للنظام بالتحقيق في القضية. "علينا الكشف عن جذور هذه القضية بأسرع وقت ممكن".
مرت ثلاثة أشهر كاملة على وقوع الحادثة الأولى في قم يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني). ومنذ ذلك اليوم، يتكلم طلاب من جميع أنحاء البلاد عن دخول روائح غريبة إلى غرفهم الصفية [صفوفهم] وإصابة الطلاب بالمرض، كما ارتفع عدد هذه الحوادث على نطاق البلاد، إذ تعرض أكثر من ألف طالب في 91 مدرسة تتوزع على 20 محافظة مختلفة لحالات يشتبه في أنها تسمم وفقاً لآخر البيانات الصادرة بتاريخ الثاني من مارس.
تعتمد المدارس الإيرانية التقسيم الجندري [يقضي بالفصل بين الفتيان والفتيات]. وقد طاولت حالات التسمم بعض مدارس الذكور أيضاً، لكنها تركزت إجمالاً في مدارس الإناث الثانوية.
ووصف الطلاب انبعاث رائحة غاز خفيفة وحادة تبعتها حالات سعال واختناق. وقالوا إنهم شعروا بخدر في أعضائهم، فيما سقط بعضهم مغشياً عليه. وتشير التقارير إلى وفاة طالب واحد على الأقل.
وتظهر في الفيديوهات مراهقات - من الفئة العمرية نفسها للشابات اللاتي قدن احتجاجات ضد النظام خلال الخريف الماضي - ينقلن على حمالات ويجاهدن لكي يتنفسن داخل غرف الطوارئ في المستشفيات. ويبدو أولياء الأمور وهم يبكون ويصيحون ويهاجمون قوات الأمن التي يظهر بأنها تضربهم بدلاً من أن تواسيهم.
فر كثيرون من أهم الكفاءات العلمية الإيرانية من النظام وآفاقه الاقتصادية المتداعية. وتعتقد أجهزة النظام أن الشابات يعانين من تسمم بالنيتروجين، وهو تفسير يعتبر الخبراء أنه لا يعتد به الناحية العلمية.
يوم السبت، زعم وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي بأن "التحقيقات الميدانية" أفضت إلى اكتشاف "عينات مثيرة للشبهة" تخضع للتحليل في المختبرات الآن.
بدأ رئيسي، ومعه المدافعون عن النظام الإيراني، بتأليف نظريات مؤامرة تنسب عمليات التسميم إلى إسرائيل أو أعداء إيران. وحمل رئيسي يوم الجمعة "أعداء" إيران المسؤولية عن الهجمات بالسم، قائلاً إن هدفهم هو إثارة "الخوف واليأس" في أوساط الإيرانيين.
لكن إيرانيين كثراً يعتقدون أنهم يعرفون من المسؤول عن هذه الهجمات وسبب شنها. ويسمي البعض القضية التسميم المتسلسل، في إشارة مشؤومة إلى جرائم الاغتيال المتسلسلة المروعة التي ارتكبها المتطرفون المناصرون للنظام بحق المعارضين السياسيين، وعصفت بالنظام في أواخر تسعينيات القرن الماضي.
يعتقد إيرانيون كثر أن المجموعات الإسلامية المتطرفة والعنيفة نفسها - التي غالباً ما تنتمي إلى منظمات دينية غامضة أشبه بطوائف مستقلة متأصلة في قم - تسمم الفتيات بهدف منع النساء من ارتياد المدارس أو انتقاماً من الدور الذي لعبنه في الانتفاضة التي انطلقت خلال الصيف الماضي ويتواصل ظهورها بين الفينة والأخرى. واتهم بعض غلاة المتشددين المشابهين باستخدام الأحماض لتشويه النساء اللاتي يرتدين ثياباً لا تراعي اللباس الإسلامي كما يجب، برأيهم.
وتقول إحدى الأمهات في قم، التي منعت ابنتها البالغة من العمر ثمانية أعوام من ارتياد المدرسة خلال الأسابيع الأخيرة خوفاً من تعرضها للاستهداف "نعتقد أن المسؤول هو جماعات لا تستطيع الحكومة السيطرة عليها، حتى لو كانت تعرف من هي".
ولفتت هجمات التسميم المريعة أنظار العالم، وحتى البيت الأبيض. وقال الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي يوم الخميس "يجب أن يكون الهم الوحيد للفتيات الصغيرات اللاتي يذهبن إلى المدرسة هو التعليم. ويجب ألا يقلقن في شأن سلامتهن الجسدية. أعتقد أن موقف الرئيس الآن هو "يجب أن نعرف" [ما يحصل]، ويجب أن يعرف العالم كذلك. ولا شك في أن أسر الفتيات اليافعات يجب أن تعرف".
خلافاً لحركة "طالبان" في أفغانستان، لم يطرح النظام الإيراني يوماً حظر التعليم على النساء، كما رفض مسؤولو التعليم الإيرانيون مقترحات بالعودة إلى أساليب التعليم عن بعد التي اتبعت خلال فترة [جائحة] كوفيد حتى انتهاء أزمة الهجمات بالسم. ويقول شخصان من أولياء الأمور إن المسؤولين طلبوا من مديري المدارس عدم السماح للأساتذة أو الطالبات بإطلاع الأسر التي تقرر منع بناتها من ارتياد المدرسة على الواجبات الدراسية، كما حاولوا حث أولياء الأمور على التزام الصمت في شأن هجمات التسميم، وطالبوهم بالتوقف عن مخاطبة وسائل الإعلام المحلية والدولية ومشاركتها مخاوفهم.
لكن أولياء الأمور يتصدون لهذه المحاولات. خلال السنوات القليلة الماضية، ازداد وعي المواطنين العاديين في إيران بشؤون التواصل الاجتماعي والسياسة، وهم يزدادون إلماماً يومياً بأساليب محاربة النظام واضطراباته، والتلاعب بعقول المسؤولين لكي ينفذوا مطالبهم.
يقول أحد الآباء الإيرانيين في مقابلة "لم نرَ أي حسنة في السكوت. ولن يحدث الاحتجاج في الشارع أي فارق في هذه الحالة. رأينا كيف خرج أشخاص للتظاهر من دون أن يفرق الحال. لم يتغير شيء. إنما في هذه الحالة، أرغمهم انتشار الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي على التحرك. مجرد إقرارهم بحدوث شيء هو نوع من الانتصار".
إن كان المسؤول عن الهجمات فريقاً مريضاً يحمل فكراً إرهابياً تحتضنه الحوزات العلمية والمؤسسات الدينية التي يمولها النظام نفسه، يجب محاسبته بقسوة وفرض تغيير جذري.
لكن إضافة إلى كشف الهوة الكبيرة بين الإيرانيين من جهة، والنظام الذي يهيمن عليهم من جهة أخرى، تكشف الأزمة مدى هشاشة الجمهورية الإسلامية وضعفها، كما حدث في مقاربته الاحتجاجات على فرض الحجاب [القسري] التي اندلعت العام الماضي، أظهر النظام المرة تلو الأخرى بأنه لا يستجيب للمطالب الشعبية، وأنه عاجز عن التكيف والتغيير. وهو لا يعرف سوى العنف والوحشية، ولا يثق بالمساومات والإصلاح [يزدريها].
أما يوم السبت الماضي فظهرت فيديوهات تصور مسلحين ملثمين من مناصري النظام يعتقلون بطرق هجمية أولياء الأمور الذين يطالبون بتفسير قضية التسميم [يسائلون النظام]، ويدخلونهم عنوة إلى شاحنات صغيرة. إن بطش النظام الإيراني يؤذي الإيرانيين ويسمم حياتهم، سواء مجازياً أو حرفياً، وقد يكون السبب في انهياره كذلك.