بعد "أميرة"، الذي توقفت عروضه، وسُحب من ترشيحات الـ"أوسكار" عقب اتهامه بـ"تشويه صورة الأسرى في السجون الإسرائيلية والحط من قيمة نضالهم"، يُواجه فيلم فلسطيني آخر المصير عينه من هجوم لفظي وغضب عارم وانتقادات وصلت إلى حد التخوين. الفيلم الذي أحدث هذا كله هو "صالون هدى" للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، الذي كان قد عُرض في الدورة الأخيرة من "البحر الأحمر السينمائي"، واستعاده قبل أيام "مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة"، كما أنه شق طريقه أخيراً إلى الصالات الأميركية. أما أسباب السخط الشعبي فهي ظهور الممثلة ميساء عبد الهادي عاريةً تماماً في أحد مشاهد الفيلم، وما جاء في بعضها الآخر من حوارات اعتبرها المحافظون "نابية"، إضافة إلى مجمل مضمون الفيلم الذي لم يعجب حراس القضية الفلسطينية.
في زمن وسائط التواصل، بات هذا النوع من الحملات على الأفلام مكرراً، خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بمجتمعات محافظة وعقليات منغلقة تعتقد أنه يجب تقييم الأعمال الفنية من وجهة نظر أخلاقية ودينية، لا بل أحياناً من منظور عشائري، من خلال ممارسة وصاية على سلوكيات أي شخص يعيش في هذا المجتمع. الأصوليون في فلسطين استفزتهم إطلالة الممثلة ميساء عبد الهادي في الفيلم كما خلقها الله، في لقطة جريئة بمعايير السينما العربية. حرّضوا عليها، واعتبروا فعلتها "تشويه سُمعة وانتهاكاً"، وأخرجوا من جُعبتهم كل المفردات البالية التي تعود في كل مرة يخرج الفن عن "قيم المجتمع وآدابه".
الهوس بالحفاظ على الشرف أفضى بالبعض إلى كتابة مقالات تقارن "صالون هدى" بأفلام البورنو، وهذا أبعد ما يمكن عن الحقيقة. حتى مدير مهرجان القدس السينمائي قال في تصريح: "المشاهد العارية في الفيلم بالنسبة للمخرج هي تذكرة الوصول للشهرة وتسويق الفيلم على حساب القضية الفلسطينية، لكنها شهرة تتنافى مع قيمنا الأخلاقية وكل القيم الإنسانية. لقد كان بإمكان المخرج أن يوصل الرسالة من دون التعرض لهذه المشاهد الإباحية". وأكثر ما يثير السخرية في القضية التي باتت "تريند" على وسائط التواصل، هو مطالبة نقابة العاملين في مهنة الحلاقة توقيف الفيلم. دانت النقابة عبر بيان الفيلم وطالبت الجهات القانونية المتخصصة بمحاسبة جميع العاملين فيه، ومساءلتهم قانونياً، بحجة أنه "يسيء لمهنة التجميل في فلسطين ولسمعة صالونات السيدات وأصحاب هذه الصالونات".
الفيلم عن شخصية محورية هي ريم (ريم عبد الهادي). تبدأ الحكاية مع دخولها إلى صالون حلاقة هدى ذات بعد ظهر من يوم عادي. أقل ما يقال إن دخولها إليه لن يكون مثل خروجها منه، ذلك أنها ستتعرض لمكيدة من مصففة الشعر هدى (منال عوض) التي تعمل في خدمة الاستخبارات الإسرائيلية. فبعد تخديرها تصورها عارية ومستلقية إلى جانب رجل عارٍ، ثم تطلب منها التعاون مع الاستخبارات مقابل التستر على هذه الصور. ابتزاز مشين يحدث صدمة عند السيدة المتزوجة التي أصبحت أماً حديثاً وعلاقتها بزوجها ذي الشخصية الضعيفة السيئة جداً. النقطة الأخيرة مهمة لتفهم خياراتها وسلوكياتها وقرارها في التكتم على السر. فهي لا تعرف لمن تلجأ هرباً من هذه المصيبة التي وقعت فيها. من جانب، هناك موسى الإسرائيلي الذي ينتظر منها معلومات، ومن جانب آخر شباب المقاومة الأشاوس الذين يمارسون البطش، وكل طرف يريد استدراج الطرف الآخر وإيقاعه في الفخ. ريم الذي لا ناقة لها ولا جمل في كل ما يحدث حولها، تحاول أن تستنجد، ولكن كامرأة لا تملك ملاذاً آمناً، لا يوجد من حولها من تثق فيه لتروي له ما حل بها. لديها صديقة تبكي على كتفها لتعبر لها عن عجزها. لا تتصل ريم بأمها قبل أن يبلغ الفيلم دقيقته الخمسين، ربما لإدراكها المسبق بأنها لن تسعفها في شيء. حتى النساء لا يستطعن مساعدة بعضهن بعضا.
في موازاة سعي ريم لإيجاد حل لمشكتلها، يلقي شباب المقاومة القبض على هدى، مباشرةً بعد حادثة التخدير (إحدى نقاط الضعف في الفيلم). هدى شخصية قوية، عاشت واختبرت وعانت، هي نقيض ريم، تعرف ماذا تفعل، تقول إنها تختار ضحاياها من بين النساء اللاتي يعشن مع أزواج سيئين. فالعمل مع الاستخبارات في نظرها يعطيهن قوة ويساعدهن في التصدي لأزواجهن، هذا الكلام الإشكالي قد يكون أكثر ما أزعج بعض المشاهدين، لكن يجب عدم صرف النظر عن حقيقة أن هدى ضحية. تتعامل مع إسرائيل لعدم توافر الخيار لديها، بعد أن ألقي القبض عليها وهي في سرير عشيقها، فأُعطيت خيارين: إما التعاون مع العدو، وإما الفضيحة التي يكون ثمنها غالياً في مثل هذا المجتمع الذي تعيش فيه.
إذاً ريم وهدى من ضحايا الابتزاز الجنسي. يدخلنا هاني أبو أسعد في متاهة العلاقات الاجتماعية، حيث كل شخص مستعد لالحاق الأذى بالآخر. يزجنا في حلقة مفرغة من العنف المتنقل، حيث لكل واحد حصته منه. يحاول أن يعطي لكل شخص أسبابه التخفيفية التي تساعده على التنصل من مسؤولياته. أبو أسعد غير رحيم مع مجتمعه وناسه، ومن هنا الغضب العارم ضده وضد بعض أفلامه الأخيرة، فهو يدخلنا البيت الفلسطيني في محاولة لتعرية الناس الذين يعيشون في ظل الاحتلال. في سينماه، المظلوم قد يكون ظالماً أيضاً. كما تقول هدى للمقاوم (علي سليمان) الذي يحاول أن يسحب منها الأسرار والاستدلال على النساء العميلات: "أنت لست مناضلاً. أنت فقط تمارس قوة على الذين أضعف منك".
هناك إشكاليات كثيرة في الفيلم، منها ما هو سينمائي، وما هو سياسي. على المستوى السياسي، فهو امتداد لـ"عمر" الذي كان يسأل عن كيفية مقاومة الاحتلال ويصور كيف يقاتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً لأسباب ليس الاحتلال أحدها. في مقابلة لي مع أبو أسعد، كان يقول: "عندما يترك القياديون الفلسطينيون الكفاح المسلح في يد عناصر لا تملك أي تجربة، حينها لا بد من أن تتحول المقاومة إلى مصيبة.
أصحاب التجربة تركوا من هم أصغر منهم سناً وخبرة يتخبطون أمام العدو". مرة جديدة، يحاول أبو أسعد تفجير البيت الفلسطيني من الداخل، رافعاً الغطاء العاطفي عنه، وذلك بدافع النقد الذاتي، ليرينا أبناء الجلدة الواحدة يتقاتلون. مجدداً، يأتي بعض من فكر المخرج على لسان هدى التي تقول: "أي عدو؟ كلهم أعداء. المجتمع الذي يمارس الظلم على نفسه من السهل احتلاله"، هذا النمط لا ينجح دائماً في الإقناع، وهو في الحين نفسه يزعج الفلسطينيين الذين يرفضون أي فيلم ليس هو دعاية للقضية المستمرة منذ أكثر من 80 عاماً. أما على المستوى السينمائي، فـ"صالون هدى" يتركنا في جوع، ومع قلب بارد تماماً كقلب ريم في آخر الفيلم.