Ana içeriğe atla

بودلير الناقد لم يحب التصوير الفوتوغرافي

شارل بودلير
AvaToday caption
كان معروفاً عن ديلاكروا الذي كان بودلير أصلاً من كبار المعجبين به، لكنه لا يخفي عدم اتفاقه مع نظرته إلى التصوير. كان بودلير ينطلق إذاً من أن الفوارق شاسعة بين الرسم والتصوير
posted onNovember 22, 2021
noyorum

على عكس مواطنه الرسام الرومنطيقي الكبير أوجين ديلاكروا، وكذلك على عكس الرسام الإنجليزي ويليام تورنر الذي وصل فيلم روائي حققه عنه مايك لي قبل أعوام إلى حد تكريس بضعة مشاهد تصوره في واحد من أول استديوهات التصوير الفوتوغرافي في لندن، وهو ممتلئ حماسة في وقت صاحب الاستوديو يلتقط له صوراً، لم يحب الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير التصوير الفوتوغرافي مع أنه عرف دائماً بكونه واحداً من أشد أنصار الحداثة توقاً إلى كل ما هو جديد، وعلى الرغم من ارتباطه بصداقة عميقة مع كبير المصورين الفرنسيين في زمنه نادار الذي ندين له بمئات الصور الرائعة التي التقطها عند بدايات ازدهار التصوير لكبار الفرنسيين في المجالات كافة. لم يحب بودلير التصوير، ولكن ليس لكراهيته لوجود الصور في حد ذاته، بل لخوفه على الفن التشكيلي من أن تكون نهايته على يد هذه التقنية الجديدة.

باختصار إذاً، وقف بودلير ضد انتشار تلك "التقنية" غير موافق إطلاقاً على ما راح كثر من الفنانين والحداثويين يتناولونها به معتبرينها فناً جديداً. والحقيقة كان النقاش محتدماً بقوة وبعنف أحياناً من حول تلك القضية التي شغلت الأوساط الفنية والفكرية الفرنسية طويلاً، وربما لا تزال تشغل بعضها حتى اليوم. لكن المشكلة مع صاحب "أزهار الشر" ومعرّف الفرنسيين على الأميركي إدغار آلن بو، كانت في أنه خاض السجال باكراً بحيث لم يقيض له أن يعيش تلك المراحل التالية التي ستعرف تعايشاً خلاقاً غالباً بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وصل أحياناً إلى حدود الاندماج عن طريق "الكولاج"، ولاحقاً عن طريق تيارات فنية مدهشة لعل في مقدمتها "الهيبر رياليزم" أي الواقعية المفرطة التي أرادت من اللوحة المرسومة أن تتطابق والصورة الفوتوغرافية بشكل تام وأكثر. بيد أن ذلك كله سيأتي لاحقاً على زمن بودلير. ففي زمن هذا الأخير نجده ينضم، ومن موقع "قيادي" إلى تلك الأصوات التي لم تتمكن من إخفاء عدائها لتلك "المحاكاة الساذجة للواقع غير تاركة للمخيلة إمكانية للتعبير عن ذاتها"، بحسب تعبير بودلير نفسه.

بالنسبة إلى بودلير كانت المخيلة "سيدة الملكات"، بالتالي لن يكون من الجائز "السماح لذلك النشاط الآلي الصناعي الذي هو التصوير الفوتوغرافي بالاستيلاء عليها لصالح ابتذال لا طائل من ورائه"، بل لا شك أن من شأنه أن يعيث فساداً في الجمهور كما في الفن نفسه سواء بسواء إن هو انتشر بشكل ليس من حقه أن ينتشر به! غير أن بودلير كان لا يفتأ "يطمئن نفسه" قائلاً إنه واثق من أن هذه "العملية الآلية سوف تعجز دائماً عن التعبير عن الحلم الذي هو صنو المخيلة، بالتالي لن يمكنها أبداً أن تنجح في تنافسها مع المشاهد المرسومة".

هذا الكلام كتبه بودلير في عام 1859 في معرض تعليقه، كناقد فني على أية حال لا كشاعر، وإن كان صاغه بلغة شعرية، على آخر صالون حضره، وربما بالتحديد تعليقاً على الحماسة التي كان معروفاً عن ديلاكروا الذي كان بودلير أصلاً من كبار المعجبين به، لكنه لا يخفي عدم اتفاقه مع نظرته إلى التصوير. كان بودلير ينطلق إذاً من أن الفوارق شاسعة بين الرسم والتصوير، لكنه كان يرى في الوقت نفسه أن "التصوير ليس في نهاية المطاف سوى الملجأ الأخير الذي يختبئ خلفه كل أولئك من أدعياء الفن الذي فشلوا في أن يكونوا رسامين"، أو كانوا "أكثر كسلاً من أن يتابعوا دراستهم الفنية، فيتجاهلون مواهبهم التي كان من شأنها أن تؤهلهم لخوض الفن الحقيقي، مكتفين بتبسيطية التصوير الفوتوغرافي".

ولم يتوان بودلير هنا عن اللجوء إلى لغة لم تكن معهودة لديه، إذ قال تعقيباً على هذا النمط الأخير من المحاججة أن "هذا الشغف المتسرع بتبني التصوير الآلي لا ينبت وحسب من  نوع من العمى والحماقة، بل ينطبع بنوع من الثأر أيضاً، غير أنني لا أعتقد أن هذه المؤامرة التي يتشارك في نسجها الأشرار والمخدوعون سوف تنجح وتؤتي أُكلها، أو أنني أحب أن أعتقد هذا على أية حال"، ويضيف بودلير هنا بلغة لا تخلو من لؤم ومرارة ينمان عن عدم ثقته بتفاؤله المفرط، "بيد أنني لعلى قناعة من أن ضروب التقدم المادي في المجال الفوتوغرافي، إذ مورست بشكل سيء، كان من شأنها كما الحال مع شتى ضروب التقدم المادي الأخرى، أن أدت إلى إفقار العبقرية الفنية الفرنسية، التي نعرف الكثير من مدى ندرتها على أية حال".

ويختم بودلير هذا النص اللافت، والذي يمكننا اعتباره نوعاً من وصية عبرت عما كان يعتمل في داخله من أفكار ومخاوف خلال سنواته الأخيرة (هو الذي نشر هذا النص قبل ثماني سنوات من رحيله)، يختمه قائلاً، "أنا أعلم جيداً أن كثراً قد يقولون لي هنا إن هذا الداء الذي أعبّر عنه إنما هو مرض لا يطاول سوى الحمقى. فأي شخص يستحق أن يوصف بأنه فنان، وأي هاو حقيقي للفن، يمكنه أن يخلط بين الفن والصناعة؟ أعلم هذا وأجدني موافقاً على ما يقال في هذا الصدد، لكنني أطرح بدوري على المتسائلين عن حق هنا، سؤالاً لا بدّ منه: هل تراهم يؤمنون بالعدوى المتبادلة بين الشر والخير، بين الجيد والسيء؟ هل يؤمنون بالفعل المؤثر الذي تمارسه الجموع على الأفراد والأفراد على الجموع؟ وبأن الفنان يؤثر في الجمهور كما أن هذا الأخير قادر على أن يؤثر في الفنان؟ إننا هنا في صدد قانون لا مراء فيه ومن المستحيل إزاحته. ومن البديهي أن الوقائع ماثلة هنا أمامنا على الدوام، كنوع من شهود رهيبين من السهل دراستها واستخلاص نتائج هذه الدراسة، فنجدنا أمام هول الكارثة: الكارثة المتمثلة في فنّ ينهار يوماً بعد يوم، ويفقد أكثر وأكثر احترامه لذاته، فيجثو كل يوم أكثر وأكثر أمام الواقع الخارج عن نطاق إرادته بحيث بات الفنان متجهاً أكثر فأكثر نحو رسم ما يراه وليس نحو رسم ما يحلم به. ومع ذلك نعرف أنه من المشرّف للفنان أن يحلم ويزيده شرفاً بالتأكيد أن يرسم ما يحلم به. فهل ترى الفنان لا يزال قادراً على معرفة هذه السعادة".

نص قاس ويبدو شبيهاً بورقة نعي لفن يموت على الرغم من تأكيد الكاتب عكس ذلك. وهو نص من المؤكد أنه لو لم يحمل توقيع شارل بودلير (1821 - 1867) بصراحة وقوة لما كان من شأننا أن نصدق أنه كان يمكنه كتابته باعتبار أنه يبدو متناقضاً حتى مع العديد من التأكيدات الحداثوية التي يمكننا العثور على أمثلة عدة منها، لا سيما في عدد من كتب ونصوص لبودلير ظهرت بعد رحيله، وفي عام 1868 وحده حاملة عناوين مثل "غرائب جمالية" أو "الفن الرومنطيقي" أو حتى "كتابات بعد الرحيل" الذي صدر في أجزاء بين العامين 1887 و1908، وهي جميعها كتب كشفت على أية حال ليس فقط عن ذلك الصراع بأنه صراع خاضه بودلير مع أطراف بادية التناقض في ما بينها، بل حتى داخل ذاته، من دون أن ننسى هنا طبعاً نصه الكبير حول "ريتشارد فاغنر وتانهاوزر في باريس" (1861)، الذي يمكن أن يعتبر في جوهر ما يقوله نوعاً من التمهيد النظري لتلك الوصية الفنية الكبرى التي كأنها هجوم بودلير على الحداثة الآلية لصالح رومنطيقية من نوع خاص. وهو أمر قد يدفعنا الى التساؤل في نهاية المطاف عما إذا لم يكن بودلير في حقيقته مبدعاً مغرقاً في رومنطيقية، كان يشعر بالحرج من دون التعبير عنها في نصوصه الإبداعية فعبّر عنها في نصوصه النقدية والتحليلية؟