عريب الرنتاوي
من بين "الأركان" الخمسة (الدين واللغة والجغرافيا، التاريخ والمستقبل المشتركين) لوحدة الأمة العربية، التي حفظناها صغاراً عن ظهر قلب كما حفظنا أركان الإيمان الستة وأركان الإسلام الخمسة، احتلت "وحدة الدين" مكانة جوهرية، كواحدة من أهم مقومات "وجود الأمة"، ورافعة من أهم روافع وحدتها: أكثر من 95 بالمئة من العرب مسلمين، والمسيحيون منهم، هم أهل ذمة وكتاب، مسيحيون عقيدةً ومسلمون حضارةً، ولطالما عاشوا أو تعايشوا في وئام وانسجام تحت ظلال دولة الوحدة، أو دولة الخلافة.
سنكتشف كباراً، أن "الدين" عامل فرقة للأمة وسبب رئيس لانقسام مجتمعاتها واحتراب دولها وتفتيت نسيجها الاجتماعي. سنكتشف خلال العقود الأخيرة على وجه الخصوص، أن أهم صدع (فالق) زلزالي في صفوف الأمة، إنما حدث على خلفية دينية ومذهبية، أو بغطاء منهما، وستصبح عناوين من نوع: "الهلال الشيعي" و"معسكر الاعتدال السنّي"، هي الأكثر تداولاً في توصيف حروب المحاور والمعسكرات المتقابلة في العالمين العربي والإسلامي.
سيجادل بعضنا أن الصراع بين هذه المعسكرات في جوهره، صراع مصالح "جيوسياسي"، وأنه صراع على الزعامة والنفوذ والثروات مدفوع بأحلام امبراطورية و"ثارات مع التاريخ". لن نجادل في ذلك، فالأرجح أنه قول صحيح. لكن الصحيح أيضاً، أن عواصم القرار الإقليمي الكبرى، لم تجد أفضل من "الغطاء / المبرر المذهبي" لتعبئة شعوبها واستنفار طاقاتها، والتغطية على الأهداف والدوافع الحقيقية الكامنة وراء هذه الصراعات والحروب. الصحيح كذلك، أن العواصم الكبرى في المنطقة، عربية وإقليمية، لم تجد أفضل من الشعار المذهبي، لستر عوراتها، وتسويق خطابها، بل وتعبئة وتجنيد مئات ألوف المقاتلين والمرتزقة في "حروب الوكالة" التي انتشرت في الإقليم انتشار النار في الهشيم.. سنكتشف أن المليشيات في كثير من دول المنطقة، لم تجد أفضل من الشعار المذهبي، لـ"شرعنة" وجودها، واضفاء قدر من "القداسة" على سلوك ميليشيات وعصابات مسلحة.
حروب الأخوة الأعداء بين أمل وحزب الله ما زالت حيّة في الذاكرة
أخفقت "وحدة الدين" في أن تكون ركناً من أركان "وحدة الأمة"، وبدل ذلك تحولت إلى عامل هدم لكيان الدولة الوطنية ومؤسساتها، وسبب في تفسيح "هويتها الوطنية"، وحافز على تفكيك نسيجها الاجتماعي، فعاودت "الشعوبية" ظهروها من جديد، بما هي ولاءات وارتباطات للخارج غير العربي، وبوصفها ظاهرة تتنامى مع تفاقم التدخلات الإقليمية في شؤون العالم العربي الداخلية.. فرايات إيران/الفقيه الولي ترفع في عواصم عربية أربع، ورايات تركيا/أردوغان، ترفع في عدد أكبر منها.
وليت خطوط الانقسام الديني / المذهبي في العالم العربي تتوقف عن حدود المذاهب والأديان وخرائط انتشارها فحسب، ذلك أن العشريات الثلاث الفائتة، وتحديداً في العقد الأخير، ستشهد على بدء عملية تفكك وتحلل داخل "المذهب الواحد". رأينا الأغلبية السنيّة في العالم العربي، تتوزعها "القراءات المتناقضة" للمذهب الواحد، سلفيون ضد الإخوان، سلفيون ضد سلفيين، إخوان ضد "تنويريين"، وهابيون أكثر تشدداً من الجميع، و"دواعش" قدّموا طبعة مزيدة في تطرفها، ومنقحة من كل أثر مديني في محتواها، لخطاب ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب. تكفير للدولة والمجتمع، والحث على الهجرة منهما إلى الجماعة المقاتلة، بوصفها "فريضة عين" على كل مسلم ومسلمة، لقتال الكفار والمشركين والمرتدين.. رأينا حروب إلغاء وإقصاء، تكفير وتخوين، بين تيارات تنتمي، رسمياً على الأقل، إلى المذهب ذاته.
ولم يخل الوسط الشيعي من انقسامات مماثلة، تعددت المراجع وتعدد المقلدون. شيعة عرب وشيعة فرس، أنصار ولاية الفقيه وخصومهم. شيعة ومتشيعون، طارئون على المذهب (الحوثي، العلوي)، وأخيراً، "شيعة الخنادق" و"شيعة السفارات". في العراق وحده، عشرات الأحزاب والمليشيات التي يجمعها المذهب وتفرقها المصالح والمرجعيات، في لبنان، ليست العلاقة بين "الثنائي الشيعي" طبيعية إلا للناظر لها من الخارج، فحروب الأخوة الأعداء بين أمل وحزب الله ما زالت حيّة في الذاكرة، وأي إشكال حتى وإن كان فردياً، كفيل بإشعال الجمرات المتّقدة تحت الرماد.. أما إيران، دولة المركز الشيعي، فلم يستتب لواء الزعامة عليها لتيار "ولاية الفقيه" إلا بعد سلسلة ممتدة من عمليات الاغتيال والتصفية والتحييد والتهميش لكل خصومه ومجادليه من داخل "الشيعية السياسية".
ومن طبيعة الأشياء، وفي صميم مسألة "الهوية" ودينامياتها، أن يفضي الإشهار عن هوية "دينية" لحزب أو حركة، إلى انبثاق أحزاب وحركات بـ"هويات دينية" أخرى. لا يمكنك أن تكون حزباً إسلامياً، وتستهجن انبثاق أحزاب مسيحية في المقابل. ولا يمكنك أن تكون "مقاوماً وطنياً جامعاً"، وأن تربط "المقاومة" بهويتها "الإسلامية".لا يمكنك أن ترفع رايات زينب وعلي والحسين، وأن تستكثر على الآخرين الاستمساك برايات أبو بكر وعثمان وعائشة ومعاوية ويزيد . الرايات المذهبية تستقي رايات مذهبية، ويصبح الحاضر والمستقبل، بمثابة استنساخ لبعض الصفحات المظلمة، وغير المطوية تماماً، من فصول التاريخ.
ولأن أحزاب الطوائف والمذاهب، بحكم طبيعتها، شمولية إلغائية، تنسب خطابها دائماً لرسالة السماء، وتضفي هالة من القداسة على رمزها وزعمائها، فإن من الطبيعي أن تنظر بعين "التكفير" لكل مخالفيها ومجادليها، وأن تلصق الاتهام بـ "الردة" وتطالب بتطبيق "حدودها" على من يدعون الانتساب إلى المرجعية الدينية والمذهبية ذاتها، فهيهات أن يتسامح السلفي أو "التحريري" مع الإخواني أو "الداعشي"، وهيهات أن تتعايش "النصرة" والجهاد"، وهما الخارجتان من رحم واحد، وهيهات أن يكون التعايش خياراً مرجحاً بين هذه الأطراف، طالما أن "فرقة واحدة" ستكون "الناجية" من بين عشرات ومئات الفرق الإسلامية "الضّالة".. من يسترجع تاريخ المشرق على وجه الخصوص، يدرك أن سلسلة الحروب المتناسلة بين قوى ذات خلفية إسلامية على وجه الخصوص، ليست سوى مآل حتمي لقوى تنتسب إلى الدين ذاته، وغالباً للمذهب ذاته.
رايات إيران/الفقيه الولي ترفع في عواصم عربية أربع، ورايات تركيا/أردوغان، ترفع في عدد أكبر منها.
لا يعني ذلك أن الانقسام والتفتيت والاحتراب، ميزة ملازمة للجماعات والأحزاب الدينية وحدها دون سواها. حروب الإلغاء والإقصاء اندلعت كذلك بين تيارات تنتمي لـ"المدرسة القومية" ذاتها، أو "المدرسة اليسارية" ذاتها، ولا يعني ذلك أن المسار الانقسامي، ملازم للقوى والأحزاب الدينية (الإسلامية) دون سواها، فحروب الإلغاء والإقصاء اشتهرت في أوساط القوى السياسية والمسلحة المسيحية كذلك، ولبنان قدّم وما يزال يقدم، نماذج وتجارب دالة على هذا النمط من التشظي. لكن المشهد في "الحالة الإسلامية" يبدو أكثر دموية وتفاقماً، ولسببين اثنين: الأول، لأن المسلمين على اختلاف مذاهبهم، هم الكثرة الكاثرة من سكان هذه البلاد، ومن الطبيعي أن تتكاثر جماعاتهم وفصائلهم وميليشياتهم والحالة كهذه . والثاني: أن ما من تجربة إنسانية، ربطت الأرض بالسماء، و"الناسوتي" باللاهوتي، والدنيا بالآخرة، كما فعل الإسلام والمسلمون. هنا، وفي التجربة الإسلامية على وجه الخصوص، يحضر مصطلح "المفاصلة" بوصفها لحظة القطع والانقطاع في مسارات الحياة اليومية المعتادة، ونقطة التحول الكبرى، التي لا رجعة عنها، في علاقات القوى وديناميتاها.
مؤسف بعد كل ما مرت به المنطقة العربية (المشرق بخاصة) من تجارب مكلفة ودامية، وبعد كل ما تكبدته شعوبها ومجتمعاتها ودولها سواء بسواء، أن البعض منّا، ما زلا يكرر كالببغاء، ومن تدقيق أو تمحيص، ما سبق لنا أن تعلمناه صغاراً.. مؤسف أن حديث المدنية والديمقراطية والعلمانية، ما زال يُقابل بالتكفير والتخوين و"التغريب" و"الشيطنة".