علي الأمين
في موقف له قبل ثلاثة أيام من انطلاق الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية ضد إيران في الخامس من الشهر الجاري، اعتبر المرشد علي خامنئي في خطاب له ردّاً على العقوبات، أن “أميركا مُنيت بالهزائم أمام إيران على مدى الأربعة عقود الماضية، فيما كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي المنتصرة في تلك التحديات”.
يعتبر المرشد الإيراني أن عدم وصول واشنطن إلى طهران دليل على هزيمتها. هذا الموقف يمكن إدراجه في سياق الخطاب الذي يهدف إلى شدّ أزر مناصري النظام في إيران، في مواجهة أقسى عقوبات تتعرّض لها إيران منذ بداية الحكم الإسلامي قبل نحو أربعين عاما، وهو ينطوي على ذخيرة الأيديولوجيا التي شكّلت وتشكّل السلاح الوحيد الذي يمكن من خلاله إضفاء صورة نضالية للنظام الإيراني، الذي يعاني ليس من الضغوط الأميركية، بل من الفشل التاريخي لنظام قدّم نفسه قبل 40 عاما باعتباره نظاما يهدف إلى تحويل الشعب الإيراني من الفقر إلى البحبوحة، فكانت سياساته وبالا على الشعب الإيراني الذي خرج بالملايين في أكثر من خمسين مدينة احتجاجا على سياسات الحكومة التفقيرية والمفسدة.
فشل للنظام الإيراني الذي قدّم نفسه على أنه نواة الوحدة الإسلامية ونموذج لوحدة المسلمين، فأنتج كارثة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، عندما ساهم في صناعة شرخ بين المسلمين على امتداد العالم الإسلامي، فرسّخ الوعي المذهبي كما لم ينجح أحد في ترسيخه.
الهزيمة التاريخية تكمُن أيضا في الفشل الذريع في بناء اقتصاد إيراني متماسك ويقارع النظامين الاقتصاديين الرأسمالي والاشتراكي، الذي طالما ردد أركان النظام ومنذ انتصار الثورة الإسلامية أنهم ينجزونه، لكنهم وصلوا إلى ما هو أسوأ من النظامين، إذ ليس لدى إيران اليوم غير الوقوف على أعتاب موسكو وبكين وطوكيو والاتحاد الأوروبي لطلب العون، فيما نظّرت الأيديولوجيا الإيرانية لمقولة “لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية”، وهي شعارات لم ينل الإيرانيون منها إلا الفقر والعوز والفساد، ولم ينل منها المسلمون القريبون لإيران والبعيدون عنها، إلا المزيد من التفرقة وتدمير المجتمعات والكيانات التي ينتمون إليها، فسادت التفرقة على حساب الوحدة.
الفشل أو الخديعة الكبرى التي انطلت على كثير من العرب والمسلمين، هي تحرير فلسطين واستنقاذ القدس، ونصرة المستضعفين في الأرض، فها هي فلسطين تتهوّدُ في زمن الانتصار الإيراني وتمدده، بل في ظل وجوده الفاعل على حدود فلسطين المحتلة، في لبنان وغزة وجنوب سوريا.
ما معنى كل هذه القوة الإيرانية التي أثبتت فاعليتها في حماية نظام الأسد وقمع الشعب السوري وقتله وتهجيره، فيما تبدو اليوم قوة عاجزة عن أن تلجم إسرائيل عن أي خطوة تخطوها لتهويد فلسطين.
وأخيرا وليس آخراً في سرد بعض مظاهر الهزيمة الإيرانية، لم تكن إيران يوما جادة أو صادقة في مواجهة واشنطن، أي أنها لم تقف في وجه الولايات المتحدة حينما دخلت إلى الخليج العربي إثر احتلال الكويت عام 1990 ولا كانت مستاءة، بل نسّقت مع واشنطن، كما بات معروفاً حين احتلت واشنطن أفغانستان والعراق، وها هي اليوم تستنجد بسلطنة عمان لإعادة بناء تفاهم مع إسرائيل، ولا يهتز عنفوانها الأيديولوجي من أن يتواجد وفدها الرسمي مع الوفد الإسرائيلي في مؤتمر اقتصادي في العاصمة القطرية، هي التي طالما كانت وميليشياتها في المنطقة العربية تقيم الدنيا ولا تقعدها لو حصل أيّ اتصال بين شخص أو مسؤول عربي مع إسرائيلي سواء كان مسؤولاً أو حاملا للجنسية الإسرائيلية.
الانتصار الإيراني قد يصحّ ولكن ليس على الولايات المتحدة، التي حصدت ومازالت تحصد نتائج السياسات الإيرانية. يجب أن نقرّ أن إيران انتصرت على الدول العربية، ليس على الأنظمة بل على المجتمعات التي جرى العمل على تدميرها المنهجي، وكانت إيران الطرف الفاعل والمؤثر في عملية التدمير. وما لم تنجح إسرائيل في تحقيقه نجحت إيران في إنجازه، وفتحت الطريق إلى القدس، لكن لدخول إسرائيلي سلس لم يكن ليتحقق لولا الماكينة الإيرانية التدميرية التي شقّت الطريق لهذا الدخول الإسرائيلي إلى كل المنطقة العربية.
لم تنطو العقوبات الأميركية ولا السياسة الأميركية تجاه إيران، يوماً على إسقاط النظام الإيراني، وكل ما تقوله واشنطن اليوم وكل المحللين الأميركيين، مفاده أن الهدف هو تغيير السلوك الإيراني وفرض آليات جديدة لضبط ومراقبة المشروع النووي السلمي، ذلك أن إيران لم تكن يوما عنصرا معوقا لمزيد من النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بل كانت عنصرا مساعدا لتعزيز هذا النفوذ.
لكن الذي تحمله العقوبات اليوم في البعد الاستراتيجي الأميركي، هو خطة الانتقال إلى مرحلة جديدة، فبعد إنهاء النظام الإقليمي العربي إلى حدّ كبير بفعل التدخلات الإيرانية في الدرجة الأولى، وبعدما أفلحت إيران في مأسسة الشروخ في أكثر من مجتمع عربي بسلاح المذهبية، وإزاء هذا الركام الناتج عن تدخلات إيران في الدول العربية، فإن المهمة الإيرانية تكون قد أنجزت إلى حدّ كبير، وليس المطلوب عدم مكافأة إيران على منجزاتها على هذا الصعيد، بل المطلوب هو التكيّف مع مرحلة جديدة تريد واشنطن من خلالها إعادة ترتيب وبناء المنطقة على قواعد لا يشكل العنصر الميليشيوي أداتها الرئيسية، فعلى القيادة الإيرانية أن تتأقلم مع متطلبات المرحلة الجديدة، بينما المشكلة لدى حكام إيران اليوم تكمن في أن سياساتهم الخارجية وتمدد الحرس الثوري كانا وسيلة لتغطية الفشل الداخلي في الاقتصاد والتنمية وفي بناء نموذج متماسك داخليا.
لذا فان إيران تعاني اليوم من عجزها عن اختلاق شعارات أيديولوجية جديدة قابلة لأن تقنع شعبها بضرورة التضحية من أجلها، وهي في الوقت نفسه عاجزة عن الصمود إلى مدى طويل في مواجهة العقوبات من دون أن تقدّم مقابلا باهظا لسماسرة العقوبات وعلى رأسهم الصين وروسيا وتركيا، فالصمود لن تكون نتيجته بعد كل العداء الذي برعت إيران في صناعته مع شعوب المنطقة المحيطة بها، إلا المزيد من الارتهان لمن تسمّيهم “أصدقاء” من دول ستسعى إلى استغلال إيران إلى الحدّ الأقصى، ولم تكن خطوة إعفاء بعض الدول من عقوبات التعامل مع إيران كما قرّر الرئيس الأميركي قبل أيام، إلا وسيلة لمكافأة هذه الدول وبشروطه، وليس تخفيفا عن النظام الإيراني، الذي بات عالقاً بين كماشتي العقوبات الأميركية القاسية من جهة، وجشع السوق السوداء والأصدقاء الذين سيتكفلون باستنزاف الاقتصاد الإيراني أكثر فأكثر من جهة ثانية.
الانتصار الإيراني على الولايات المتحدة كان يمكن أن يكون فعلا إيرانيّا صحيحاً، لو أن الأيديولوجيا الإيرانية لم تكن وظيفتها ومصدر قوتها الفعلي هو تدمير الدول العربية وإضعافها، وكانت فعلا في مواجهة السيطرة الغربية وفي مواجهة إسرائيل، وأيديولوجيا تعمل من أجل رفاه الشعب الإيراني. هذا لم يكن منذ عقود ولن يستطيع أن ينتصر على الولايات المتحدة طالما أن كل انتصاراته كانت تتم بمعونة أميركا نفسها، فمن سيعينه اليوم؟
كاتب لبناني