جعفر المظفر
إذا كنت من أهل (البصرة) فلا بد وأن تكون مغرما بأكل سمك (الصبور) وإذا لم تكن من أهلها وحدث وأن وقعت في غرام هذه السمكة فذنبك على جنبك لأن عليك وقتها ان تدخل دورة عند البصريين لكي تتعلم كيف تفصل بين لحم هذه السمكة وبين العظام الرقيقة المتناثرة في كل جزء منها، وبدون هذه الدورة أجزم أنك ستلعن هذه السمكة، لحما وعظما، ثم تقسم على أن لا تقربها أبدا.
وحتى الأغلبية من أهل البصرة الذين ظل (الصُبور) وجبتهم اليومية في موسم اصطيادها فهم لا يسلمون أبدا من الوقوع ضحايا لعظامها إذ غالبا ما ترى أحدهم وهو يتبلعم بعظمة رشيقة أبت إلا أن تثأر لأمها السمكة الضحية فتنغرس في بلعوم آكِلِها الذي يروح يتلوى من الألم ليقع بين نارين، الأولى نار ألم الغرسة والثانية نار الحسرة على السمكة اللذيذة التي سيصير معظم لحمها من نصيب شريكه على المائدة.
الواقع ان القدرة على تقدير من كان البادئ في الحرب العراقية الإيرانية صارت مثل القدرة على تناول وجبة (الصُبور أو الاصْبور) دون التعرض لخطر أشواكها، فالآلام التي تسبب بها تلك الحرب والخسائر التي رافقتها، والأعداء الداخليين الذين تكاثروا بفعل النهج الخاطئ لصدام حسين ومن ثم مغامرته الكارثية في الكويت وحصار السنوات الثلاثة عشر، كل ذلك كان قد جعل العراقي لا يصدق، بل لعله لا يريد أن يصدق ان صدام حسين لم يكن هو البادئ.
ولو أن الأمر كان معكوسا لكان الإيرانيين قد أسقطوا أسباب تلك الحرب على الخميني نفسه وتمنوا مثلي لو أن أمه لم تلده أبدا.
إن الشيوعي العراقي الذي كان قد طرده وطارده صدام حسين، والبعثي العراقي الذي غدر به أو ظلمه صدام، والكوردي العراقي المتطلع للانفصال، والعراقي الذي أتعبته الحروب والحصار واستهلكت تحمله وصبره، إن كل هؤلاء لم يعودوا قادرين على إعادة قراءة التاريخ العراقي دون ان يضعوا أوزراه وكوارثه في عنق صدام حسين، والأمر ذاته كان جعل قراءة الموقف من الحرب العراقية الإيرانية تماما مثل تناول وجبة الصبور البصرية التي يكون مفتاح السلامة فيها المران فالمران والمران دون أن يتكفل ذلك بالحصول على الشهادة التقديرية التي تؤكد على تغلب الأكِل على المأكول.
إن صدام حسين يتحمل نصيبا كبيرا من مسؤولية تحويل سمكة (البني) القليلة الأشواك والسهل تناولها على أغلبية العراقيين إلى سمكة (صُبور) بصرية صعبة على البلع، فلو أنه انصرف إلى البناء بعد أن توقفت الحرب العراقية الإيرانية، ولو أنه منح العراقيين فرصة التقاط أنفاسهم والدخول في بحبوحة عيش يستحقونها، ولو أنه لم يرتكب إثم غزو الكويت لما راح البعض يقرأ تاريخ العراق بعد غزو الكويت بأثر رجعي، ليجعل من الخميني وكأنه كان الطفل البريء الذي حاول صدام افتراسه، ولما نسوا كيف تسبب محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الذي أسسه في تلويث أجواء العراق وتعكير صفوه.
وهل معنى ذلك أن صدام حسين لم يكن له نصيبا في تلك الحرب.
كلا فالمسالة ليست كذلك، إذ قد نتفق على انه كان ميالا للعنف والمغامرة، لكننا حين نضيف الخميني إلى الصورة وسعيه لتصدير ثورته المشؤومة ونعيد تشخيص موقف الصدر والدعوة ودورهما في تسميم الأجواء السياسية العراقية فلسوف نكون موفقين بإعادة قراءة الموقف من الحرب العراقية الإيرانية من خلال رؤى وطنية بعيدة عن الإسقاطات الشخصية والفئوية والطائفية .
ترى هل ظلت الحال على حالها؟ كلا أبدا، ذلك أن البلعوم العراقي لم يعد وحده الذي يعاني، إذ بعد سنوات سيكتشف العراقيون بأنفسهم كيف ان صدام حسين لم يكن مخطئا البتة في تشخيص الخطر الإيراني، ولسوف يمر الإيرانيون بنفس الحالة العراقية الصعبة التي جعلت قدرتهم على التهام السمكة ليست بالأمر السهل، إذ بعد أن بانت سعة الأخطار والمطامع والتدخلات الإيرانية في شؤون العراق خاصة، مرورا منه بعد ذلك إلى سوريا ولبنان واليمن، وتصاعد عدد القتلى والجرحى الإيرانيين نتيجة تدخلات نظامهم في ساحات الحروب، إضافة إلى معاناتهم الاقتصادية الآخذة بالتصاعد، فإن قراءة واقعهم السياسي والمعاشي بأثر رجعي سوف يجعلهم يعيدون مليا تركيب قناعاتهم بشأن من كان البادئ بالحرب العراقية الإيرانية، سائرين على خطى أولئك العراقيين نفسها الذين صار صعبا عليهم قراءة دور صدام حسين من تلك الحرب دون أن يسقطوا على السؤال معاناتهم منه ومن حروبه وما أتت به من كوارث وأهوال ومن ثم قراءة موقفه من الحرب مع إيران بعيون الموقف من غزو الكويت.
ترى إذا كان النظام الإيراني، رغم هول القوى الجبارة والتحديات القاسية التي تجابهه في يومنا الحالي، غير ميال للتراجع عن سياسة التدخلات المباشرة في شؤون جيرانه، وغير مستعد لمراجعة سياساته الخاطئة بحق شعبه، فما الذي كان سيردعه بالأمس عن مواصلة سياسته التوسعية الخرقاء على حساب جاره العراق، وهو بلد لا يقارن على أي مستوى بقوة أمريكا وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية الجبارة.