بازبدە بۆ ناوەڕۆکی سەرەکی

المعركة القاتلة بين الثورة البلشفية والمبدعين الروس

ستالين وتروتسكي
AvaToday caption
ذهل المبدعون يومها أمام هذا التطور الذي لم يكن قد خطر لهم على بال. فهم ومنذ ما قبل انتصار الثورة بسنوات كانوا يعتقدون أن فنونهم وآدابهم ثورية، وأنها قد أسهمت ويجب أن تسهم دائماً في نهضة المجتمعات وتثوير علاقتها بالشعر والرسم والمسرح والسينما والموسيقى
posted onJuly 19, 2022
noبۆچوون

نعرف جيداً أن ما من ثورة في التاريخ أثارت قبل اندلاعها وإثر انتصارها من الحماس لدى المثقفين في بلد الثورة نفسها، وحتى في بلدان كثيرة أخرى من العالم، ما أثارته الثورة الروسية المعروفة بالبلشفية يوم أطاحت القيصر ثم بديله كيرنسكي في عام 1917 مفتتحة نظاماً اشتراكياً واتحاداً سوفياتياً شغلا العالم طوال القرن العشرين، ولكننا نعرف أيضاً أن ما من ثورة أسفرت لاحقاً عن خيبة أمل طاولت كل أولئك المتحمسين وجعلتهم ينكفئون حتى سلوك دروب المنافي والسجون والصمت والانتحار.

جرت العادة على أية حال أن يعتبر ثاني الحكام السوفيات ستالين مسؤولاً عن ذلك بعد رحيل سلفه لينين وتشرد رفيقهما الثالث تروتسكي في ديار العالم مطارداً من ستالين نفسه الذي تمكن في النهاية من "اصطياده" في المكسيك والإجهاز عليه بواسطة عملاء له، بالتالي نعتبر دائماً أن بدايات مرحلة ستالين عند أواسط العقد الثالث من القرن العشرين فاتحة للشرخ الكبير الذي سيقوم بين السلطات الشيوعية والمبدعين، وغيرهم طبعاً، من الذين لم يتمكنوا من إخفاء خيبات أملهم وإحساسهم بأن السلطات تخون الثورة. ولكن، حتى ولئن كانت انتحار المبدعين وسلوكهم دروب المنافي والسجون ومعسكرات الاعتقال قد استشرت مع مجيء ستالين، قد يكون من "الإنصاف" أن نعود بالأمر سنوات عديدة إلى الوراء للبحث عن البدايات الحقيقية للشرخ. وليس من أجل "تبرئة ستالين تماماً"، وإنما لرسم صورة أكثر واقعية لما حدث حقاً.

ستوصلنا هذه العودة تحديداً إلى عام 1922، إذ لم يكن لستالين بعد أي وجود ملحوظ، وكان لا يزال "الثوار الحقيقيون" يحكمون البلد ويحاول المبدعون أن يتلمسوا لديهم وفاءً بالوعود و"الآمال الثورية الكبيرة" التي كانوا يشاطرونهم إياها. أو يعتقدون ذلك على الأقل. يومها وبعد أن كانت السلطات قد رسمت خططاً اقتصادية واجتماعية جديدة تحاول من خلالها ضبط شؤون الناس، اكتشفت أن ثمة قطاعاً لم تدن منه حتى الآن، ولا بد من أن تضع يدها عليه وتصلحه: قطاع الإبداع الذي كان قد انطلق مع انتصار الثورة على سجيته خالقاً حالة مدهشة من حرية الفن ودائماً طبعاً باسم الثورة، ولكن هنا وذات لحظة خبط لينين ومن ثم تروتسكي على الطاولة صارخين، وكل على طريقته أن "الفن لا يمكنه أن يكون فالتاً إلى هذا الحد". باكراً إذاً "اكتشف" لينين وتروتسكي أن ثمة ما ليس على ما يرام، بل ثمة فوضى يحاول مبدعون من كل حدب وصوب أن يزرعوها. وهكذا كتب تروتسكي نصاً غاضباً عنوانه "الماركسية والمستقبلية"، فيما أعلن لينين ومن منظوره كزعيم للثورة والدولة في آنٍ معاً، تعليقاً على الفنون الطليعية التي شعر أنها تنتشر بأقوى وأسرع مما كان يتوقع، "صراحة أنا لا أفهم أي شيء من هذا الفن الحديث الذي لا يشعرني كذلك بأية متعة".

كانت مبادرتا تروتسكي ولينين كافيتين لكي يتحرك لوناتشارسكي مفوض الشعب لشؤون التعليم العام، الذي كان قبل ذلك قد اشتهر بتهاونه مع الإبداعات الطليعية، فارضاً رقابة صارمة تنطلق من إعلانه أن "البروليتاريا تكره هذه الفنون والآداب المسماة مستقبلية". والحقيقة أن اسم مستقبلية لم يكن محصوراً في رأي الرقابة البلشفية ومسؤوليها بالتيار الذي كان خلقه في إيطاليا مارينيتي ورفاقه قبل سنوات، ولسوف يصب لاحقاً في طاحونة الفنون الفاشية، بل كان يشمل في رأي ثوريي السلطات الجديدة كل تجديد فني يتم استحداثه في الغرب منذ مطلع القرن العشرين ليصل لاحقاً إلى التكعيبية والسوريالية والتجريدية وما لف لفها من فنون تخرج عن النطاق الواقعي.

بالنسبة إلى الزعماء الروس المتحولين من الثورة إلى الدولة، لا بد للفن آنذاك من أن يجعل نفسه في خدمة المجتمع والطبقة العاملة مقدماً المثل الصالح على الرغبة في مساعدة المجتمع على النهوض.

ذهل المبدعون يومها أمام هذا التطور الذي لم يكن قد خطر لهم على بال. فهم ومنذ ما قبل انتصار الثورة بسنوات كانوا يعتقدون أن فنونهم وآدابهم ثورية، وأنها قد أسهمت ويجب أن تسهم دائماً في نهضة المجتمعات وتثوير علاقتها بالشعر والرسم والمسرح والسينما والموسيقى. فما الذي جد؟ راحوا يتساءلون، لكي يصبح ما يبدعونه قاصراً عن رفض الثورة؟ وما الذي حدث ليستجر عليهم "عداء" قادة وزعماء كانوا حتى الأمس فقط رفاقهم المعجبين بأعمالهم؟ كانت أسئلة حارقة من هذا النوع قد بدأت تتكاثر على ألسنتهم وفي تفكيرهم هم الذين كانوا، وباكراً حتى منذ العام 1918 قد أسهموا مع السلطات المعنية، وغالباً بطلب منها في إبدال المدارس والمؤسسات والمعاهد القديمة بأخرى جديدة اعتبروها "بروليتارية وطليعية" في الوقت نفسه، وها هي السلطات تعلن اليوم أن الوقت قد حان للفصل بين العبارتين، فعبارة طليعية لم يعد لها علاقة بعبارة بروليتارية. وهذا ما جعل ماليفتش يتبع كاندينسكي في احتجاجات هامسة بعض الشيء وهو يقول، ترى ألسنا متفقين على أن التكعيبية والمستقبلية والنزعات الطليعية ثورية في حد ذاتها؟ أما ليسيتسكي فكان أكثر المبدعين اندهاشاً وهو يذكر بكيف أن الفن التجريدي كان لأيام قليلة مضت يعتبر ثورياً فإذا به يصبح رجعياً بين ليلة وضحاها، هذا فيما ذكر كاندينسكي وقبل أن يبارح البلد غير آسف، بأن المسؤولين أنفسهم وعلى رأسهم تروتسكي ولوناتشارسكي كانوا هم من طلبوا منه أن يلجأ إلى أعلى درجات الحرية في استخدام الفنون التجريدية حتى في تزيين الأعياد الشعبية والمسرحيات وما إلى ذلك.

الغريب في الأمر أنهم كانوا جميعاً في تلك اللحظة قد نسوا أن لينين نفسه كان منذ ربيع عام 1919 طالب بتوقيف مجلة "فن الكومونة" عن الصدور، واصفاً مواضيعها بأنها "شديدة الابتعاد عما يريده الشعب". وتزامن ذلك مع اتخاذ السلطات الثقافية قراراً بحل الهيئة المسماة "بروليتكولت" (الثقافة البوليتارية) لأنها، في رأي لينين، مغرقة في نخبويتها.

والحقيقة أن القائمين على هذه الهيئات والمؤسسات كانوا يشكلون الجسم الثقافي الذي وقف مع الثورة، بل حتى مع الحزب البلشفي ما جعل زياراتهم لسجون القيصر تتكاثر في السنوات السابقة على انتصار الثورة. وكانت الفنون التي يقدمونها بالتحايل على الرقابات القيصرية، لا سيما بين ثورة 1905 المجهضة وثورة 1917 المنتصرة، رابطاً قوياً بين الحزب الثوري الذي كان زعماؤه على أية حال يعيشون في المنافي، وكانت غالباً مناف ذهبية وبين الشعب، لا سيما نخبه التي كانت الممهد الحقيقي والأقوى للعمل الثوري المقبل، دون أن ننسى أن تلك الفنون التي ازدهرت في روسيا بين الثورتين ووصلت أصداؤها إلى العالم الخارجي، لعبت دوراً كبيراً في تحليق قطاعات عريضة من ذلك العالم الخارجي بمثقفيه ومفكريه ونخبته، من حول الثورة البلشفية.

لقد كانت دهشة وخيبة المبدعين الروس كبيرة يوم انقلب الزعماء بعد انتصارهم إلى قامعين لحرية الفن مطالبين الفنانين، وتحديداً على لسان لينين، في خطاب ألقاه خلال اجتماع تأسيسي لما سمي "جمعية الرسامين الثوريين" وعقد في فبراير (شباط) من عام 1922، بإنتاج أعمال فنية "تتوجه إلى الشعب مبتكرة لنفسها وله مواضيع جديدة تتحلق حول العمل والنقاء الاقتصادي والأبطال الإيجابيين"، وما إلى ذلك.

وعلى هذا النحو حدد "زعيم الثورة" الهدف والوسائل وبدأ الشرخ يتعمق بين رفاق الأمس لتظهر أسماء جديد تمجد تلك المواضيع اللينينية مثل غيراسيموف وكيسيليس. ولم يبق على المبدعين الحقيقيين، وقد قال لينين كلمته وهو يخبط على الطاولة، إلا أن يطيعوا. فالرقابة هنا والبوليس السري هنا والتهم جاهزة لرميهم في السجون. والدروب مفتوحة إذا سلكوا درب المنافي فهم باتوا أعداء الشعب والثورة. والحقيقة أن تلك الخطوات الأولى التي تبدو اليوم منسية كانت هي ما مهد الطريق لستالين ليتابع المهمة ما إن وصل إلى السلطة. وكانت مهمة ستتواصل حتى زوال الاتحاد السوفياتي مع لحظات "هدنة" لن تكن طويلة على أية حال!