حسن فحص
هل تكرر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التجربة التي لجأت إليها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في التعامل مع إيران وملفاتها المتشعبة والمتداخلة، من النووي، مروراً بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وصولاً إلى النفوذ السياسي والأمني والعسكري ونشاطها في عديد من الساحات الإقليمية، مقابل الوصول إلى اتفاق يجمد أنشطة تخصيب اليورانيوم ويقطع الطريق على انتقال إيران إلى التصنيع العسكري. إشكالية بدأت تتصدر واجهة التطورات المرافقة للتسريبات المتشعبة عن حصول لقاءات سرية مباشرة وغير مباشرة بين الطرفين الأميركي والإيراني، والحديث عن قرب التوصل إلى تفاهمات أو ما يشبه الاتفاق يتم بموجبه إطلاق معتقلين أميركيين في السجون الإيرانية مقابل الإفراج عن جزء من الأرصدة الإيرانية المجمدة في البنوك الخارجية، وأن تلتزم إيران بتجميد أنشطة تخصيب اليورانيوم عند مستوى 60 في المئة، وتحتفظ بمنشآتها وأجهزة الطرد المركزي المتطورة التي ركبتها في منشأتي فوردو ونطنز ولا تكون مجبرة على تفكيكها ونقلها إلى الخارج كما حصل في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015.
ووجه المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي رسالة واضحة ومباشرة للولايات المتحدة والدول الغربية، بخاصة العواصم المعنية بالأزمة النووية الشريكة في الاتفاق السابق والمفاوضات، من خلال العودة إلى تأكيد البعد العقائدي والديني الذي يمنع النظام الإيراني من امتلاك سلاح نووي أو أسلحة إبادة جماعية. وجاءت الرسالة في سياق التوجيهات التي قدمها المرشد لمسؤولي البرنامج النووي والمفاوضين حول الشروط الإيرانية في أي مفاوضات، التي كشف فيها عن موافقته على السير بالحوار والتفاوض تحت هذا السقف.
النظام الإيراني الذي لمس إرباك الإدارة الأميركية في التعامل مع ملفه النووي، كجزء من أزمة أكبر وأكثر تشعباً تشمل أيضاً البرنامج الصاروخي والمسيرات والنفوذ الإقليمي، أطلق مساراً دبلوماسياً وسياسياً مختلفاً يقوم على تفكيك الألغام في علاقاته مع الجوار، بخاصة العربي وتحديداً الخليجي القلق من الطموحات الإيرانية، واستطاع التأسيس لمرحلة جديدة بدأت بالتوقيع على اتفاقية بكين مع السعودية، محاولاً تكريس مفهوم في هذه العلاقة يقوم على ضرورة بناء التفاهمات الثنائية والحاجة إليها وبناء الثقة وتقديم الضمانات والتطمينات المتبادلة حول مستقبل المنطقة والتعاون في بناء منظومة إقليمية، مستغلاً الانزعاج العربي من السلبية الأميركية في التعامل مع هذه الهواجس وذهاب أميركا إلى التفاوض مع طهران من دون إشراك هذه الدول في التفاوض بالتالي عدم السماح لها بالاطلاع على كواليس الصفقات التي تعقدها واشنطن والعواصم المفاوضة مع النظام الإيراني.
واشنطن التي لمست أيضاً تمرداً عربياً على رغباتها ومواقفها، وابتعاداً عن تبني سياساتها في التعامل مع النظام في طهران، أتاحت للجانب الإيراني اعتماد لعبة محاصرة الضغوط الأميركية القائمة على مبدأ التخويف من طموحات إيران ونفوذها ودورها وما تشكله من خطر نووي وأمني على المنطقة، بالتالي تضييق دائرة المناورة أمام الإدارة الأميركية، وحصر جدول المفاوضات معها في الجانب النووي تحت سقف الاتفاق السابق وتعديلات جوهرية عليه تضمن لطهران الاحتفاظ بما حققته من إنجازات تقنية متقدمة، حتى وإن كانت تجعلها دولة "عتبة نووية عسكرية".
لا شك أن النظام الإيراني ومنظومة القرار فيه راهنت مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، على حصول أزمة في أسواق الطاقة وإمداداتها بعد خروج الصادرات الروسية من سلة الحاجات الغربية، الأمر الذي يسمح لها بابتزاز هذه الدول وجر واشنطن إلى اتخاذ قرار بإلغاء جميع العقوبات التي فرضتها مقابل الحصول على النفط الإيراني.
وإذا ما كانت هذه المنظومة قد أخطأت في تقديراتها للحاجات الأوروبية والدولية في اعتمادها على استراتيجية "الشتاء القارس" أو جنرال الثلج والصقيع، إلا أن تبدلاً في الأولويات الأميركية ساعد إيران على إعادة التوازن لمواقفها، والذهاب إلى فرض مطالبها على المفاوض الأميركي، بعد حصرها في البعد النووي ورفض أي حديث أو حوار حول الملفات الأخرى، بخاصة بعد أن بدأت بتفكيك تلك الملفات الإشكالية مع دول المنطقة المعنية بها مباشرة بدءاً بالسعودية.
وبناء على هذه القراءة، فإن النظام الإيراني ومنظومة القرار فيه، تعتقد أن الفرصة الحالية هي الأفضل والأنسب للحصول من واشنطن على المطالب التي تريدها من دون أن تكون أمام حرج التنازلات المؤلمة والكبيرة، بخاصة أن ما لمسته من التردد الأميركي ومحاولات التملص من الخطوة الحاسمة التي تمارسها إدارة بايدن، والتردد بين خيار الدبلوماسية والتفاهم وخيار التصعيد والتشدد، لم يكن نتيجة تراجع المخاوف من الطموحات النووية لإيران، بل نتيجة انشغالها بأولويات أخرى أكثر إلحاحاً ومصيرية، وهي أولويات تشكل محور انشغالات واشنطن، وتبدأ من الحرب الأوكرانية وما يمكن أن تحمله من تداعيات على مفهوم قيادة العالم أو الأحادية القطبية، وما ينتج منها من الذهاب إلى التعددية القطبية كبديل عن العودة إلى الثنائية التي سيطرت في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. بخاصة في حال خرجت هذه الحرب عن الخطوط المرسومة أو المطلوبة التي تساعد واشنطن على إبقاء جميع الأطراف ضعيفة، وتعيد أوروبا إلى دائرة الطاعة بعد خروج بعض الأصوات المنتقدة للتعامل الأميركي الاستعلائي معها، في حين يشكل الخطر الآتي من الشرق أو الطموحات الصينية السياسية والاقتصادية والمالية والتمدد الجيواقتصادي الذي تخطط له على المستوى العالمي من بوابة "الحزام والطريق"، مصدر قلق لواشنطن التي ترى في الطموح الصيني تهديداً لتفوقها الاقتصادي، الذي قد يتمدد إلى النفوذ الجيواستراتيجي في مناطق قد تشكل ساحة اشتباك بينهما. إضافة إلى محاولة واشنطن الحصول على موقف صيني مرن من الأزمة التايوانية من دون الوصول إلى إشعال حرب لا يمكن تخمين ما قد ينتج منها. مع إدراك صعوبة تقديم الصين أي تنازلات، رغم النافذة الإيجابية التي فتحتها لقاء وزير الخارجية أنتوني بلينكن في المباحثات التي أجراها مع الرئيس شي جينبينغ.
وتتقدم أولوية نشر "الثقافة المثلية" التي ينشغل بها الرئيس بايدن على كثير من الاهتمامات الأخرى، فيحاول تسخير كل الطاقات داخلياً وخارجياً لفرض هذه الثقافة ونشرها وتكريسها بغض النظر عن الأصوات المعترضة عليها. أما الأولوية الأخرى التي تلتقي مع الجهود التي تبذلها هذه الإدارة على مسار الملف النووي الإيراني، هي أولوية الدفع بعملية السلام بين إسرائيل والدول العربية وتسريعها، باعتبار أن السلام يشكل جدار حماية وطمأنة لتل أبيب من أي اتفاق أو تفاهم مع النظام الإيراني والإبقاء على برنامجه النووي.