Ana içeriğe atla

حين أغضب "ديكتاتور" شابلن اليمين الأميركي

شابلن
AvaToday caption
تدور "أحداث" المسرحية داخل المحترف الذي كان شابلن يتخذه مركزاً لنشاطه العملي في الوقت الذي كانت تولد على يديه فكرة "الديكتاتور" ويكتب لها السيناريو ويخطط لخطواته العملية. وبهذا المعنى فإن ما لدينا هنا ليس شخصية الصعلوك، بل شخصية المبدع نفسه، أي شخصية تشارلي شابلن
posted onSeptember 22, 2021
noyorum

ينظر كُثر إلى الفيلم الذي حققه تشارلي شابلن في عام 1939 بعنوان "الديكتاتور" بوصفه واحداً من أفلامه الأكثر تسيّساً، وكذلك بوصفه الفيلم الذي أحدث تلك القطيعة التي فصلت شابلن عن أميركا بعد نحو نصف قرن من انسجام بينهما. وإلى هذا، لا بد من القول، إن "الديكتاتور" إذا كان قد أثار غضب اليمين الأميركي المتطرف الذي كان ذا سطوة كبيرة حتى خلال المرحلة الأولى من الحرب العالمية الثانية، فإنه لفت نظر بقية الأميركيين إلى الخطر الذي يمثله هتلر ونازيّوه على أمن العالم وسلامه، ناهيك بالمنحى الذي اتخذه في إبرازه الخطورة المتمثلة في التضافر بين الغباء والعنف، كما مثلاً لدى "الفوهرر". ولعل أكثر ما يلفت النظر في ذلك كله هو الاضطهاد الذي سيكون من نصيب شابلن بعد انقضاء الحرب بسنوات على يد لجنة السيناتور ماكارثي الكئيبة، التي اتخذت من هذا الفيلم ذريعة لاتهام ذلك الفنان الذي أسعد مئات ملايين البشر بأنه "شيوعي" ما حرمه من الفردوس الأميركي وتسبب في نفيه إلى أوروبا، حيث أمضى المرحلة الأخيرة من حياته.

والحال أن شابلن، حين سُئل بعد ذلك بعقود عما كان من شأنه أن يفعله لو كان قد أدرك باكراً أن "الديكتاتور" سيجر عليه كل تلك "المصائب"، أجاب مبتسماً: كنت سأحققه وأمثّله على أية حال، دون أن أغير حرفاً فيه. ففي نهاية الأمر من الواضح أن ذلك "المهرج" والمبدع الكبير لم يكن من النوع الذي يقول نادماً: لو كنت أعلم! ولا بد هنا من العودة بعض الشيء إلى الفيلم والوقائع المتعلقة به. ففي نهاية سنوات الثلاثين من القرن العشرين، كانت ظاهرة هتلر مستشرية، وكان كُثر في العالم يعرفون أنها ستقود لا محالة إلى الكارثة.

وحدهم غلاة المتطرفين الأميركيين، ومن بينهم كُثر معجبون بهتلر، كانوا يرفضون حتى التفكير بإمكان حدوث ذلك، وحتى لو حدث فإن أميركا ستبقى، في رأيهم، في منأى منه. أما شابلن فكان يرى العكس، ويسير في رؤيته هذه عكس التيار الأميركي السائد. وفي أميركا كان مجرد أن تسير عكس التيار يجعلك "شيوعياً" و"مغضوباً عليك"، ويذكر الآخرين بأنك "أجنبي".

وهكذا، كان حتى وإن كان المبدع شابلن قد حقق فيلمه بأداء فني مدهش، وبطرافة لا تضاهى جاعلاً من "صعلوكه" الشهير والمحبب، حلاقاً يهودياً يؤتى به من "الغيتو" ليحل محل هتلر الذي كان من الثمالة، بحيث لم يعد قادراً على إلقاء خطاب مهم، كان لا بد له من إلقائه في الجموع المحتشدة. أما لماذا الحلاق اليهودي؟ فلأنه يتشابه مع الديكتاتور نقطة نقطة. وهكذا، إذ يتجابه الحلاق مع الجمهور يتمكن من إلقاء خطاب إنساني يتناقض تماماً مع كل ما كان من شأن هتلر أن يقوله.

كانت تلك هي الفكرة البسيطة والمستقاة على أية حال من رواية معروفة هي "سجين زندا"، هي التي اختارها تشارلي شابلن ليحقق انطلاقاً منها ذلك الفيلم الذي سيكون الآخر بين أفلامه الذي تظهر فيه شخصية الصعلوك شارلو التي كان قد ابتكرها قبل ذلك بأكثر من عشرين عاماً، وجعل لها البطولة في عدد كبير من أفلام قصيرة، ثم طويلة، أسعدت العالم كله بكباره وصغاره، واكتسبت إعجاب المثقفين والمبدعين والفلاسفة وعامة الناس، ولا سيما بقدرة مبدعها على تحميلها هموم البشر وأحلامهم. ونعرف أن ذلك الصعلوك "الداهية" الماكر والطيب إلى أقصى حدود الطيبة بشاربه "الهتلري"، وقبّعته الإنجليزية وعصاه وتصرفاته، كان قد أصبح منذ ظهوره للمرة الأولى أشهر شخصية في تاريخ السينما. وها هو شابلن، في عام 1939 إذاً، يستنفر ذلك الصعلوك من أجل التعبير عن واحدة من أكثر القضايا الشائكة التي كانت تجابه العالم: قضية الديكتاتور والنازية. غير مكتفٍ كما كان كُثر يفعلون، بتشخيص الداء والدوران من حوله، بل واصل إلى حدود اقتراح الترياق من خلال ذلك الخطاب الذي أناط مهمة إلقائه بالصعلوك وقد أضحى حلاقاً.

ومن نافل القول هنا أن اليمين الأميركي، متطرفاً أو غير متطرف، لم يكن من شأنه أن يرضى عن فيلم يهز له يقيناته، ولا سيما في مرحلة كان سيد البيت الأبيض نفسه (فرانكلين روزفلت في ولاية جديدة له بعد أن كان قد تمكن من تخليص البلد من الكارثة الاقتصادية قبل ذلك بسنوات، وراح ينظر إلى السينما كوسيلة تساعده على تخطيها) يؤمن بدور كبير في الحياة العامة تلعبه السينما ولا يتوانى عن مساندة شابلن في مشروعه. وهكذا، حل الغضب على شابلن في وقت كان الملايين يستقبلون فيلمه بترحاب، ولكن خارج أميركا. أما في الداخل فإن الفيلم بات كصاحبه مغضوباً عليه حتى وإن كان من الصعب القول إنه قد منع. كانت ثمة مقاطعة صامتة له بالأحرى. وكان ثمة غيظ مكتوم وخوف من أن يؤلب الفيلم مزيداً من الأميركيين ضد هتلر، ولكن لماذا ترانا نعود إلى هذه الحكاية هنا؟ ببساطة لأن ثمة مسرحية أشبه بمونودراما تعرض حالياً في أحد المسارح الباريسية، وحتى العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، بعنوان "شابلن، 1939" من تأليف وإخراج المسرحي الفرنسي كليف باييه، تحكي بالتحديد كيف عاش شابلن خلال المرحلة التي كان يشتغل فيها على ذلك الفيلم.

تدور "أحداث" المسرحية داخل المحترف الذي كان شابلن يتخذه مركزاً لنشاطه العملي في الوقت الذي كانت تولد على يديه فكرة "الديكتاتور" ويكتب لها السيناريو ويخطط لخطواته العملية. وبهذا المعنى فإن ما لدينا هنا ليس شخصية الصعلوك، بل شخصية المبدع نفسه، أي شخصية تشارلي شابلن يتحرك أمامنا على الخشبة ويتحدث عن مشروعه وعن دوره كفنان في تلك الأزمان الصعبة، إنما غير دارٍ أول الأمر بما ستجره عليه تلك "المغامرة" التي سينقلها الفيلم وردود الفعل عليه من حيز الفن إلى ميدان العمل السياسي. ويستعرض العمل أمامنا على لسان الفنان شكوكه حول عملية الإبداع الفني نفسها وتساؤلاته حول جدوى الفن في مثل تلك الأزمنة.

والحقيقة أنه إذا كانت المسرحية لا تجيب عن تلك التساؤلات ولا توضح ما ستكون عليه النهاية، فإننا كمتابعين لسينما شابلن وتاريخه، مثلنا في هذا مثل عشرات الملايين من جماهير السينما، نعرف طبعاً نهاية الحكاية. النهاية التي لا يعرفها شابلن نفسه خلال المرحلة التي تحدثنا المسرحية عنها. نعرف أشياء كثيرة عن النجاح الذي سيحققه الفيلم. ونعرف أشياء أكثر عن انتهاء حياة شابلن الأميركية، والنهاية التي آلت إليها شخصية الصعلوك، لكننا نعرف كذلك، كيف أن الفيلم نفسه، وعلى الرغم من كل شيء، وعلى الرغم من "العداء اليميني الأميركي له"، عرف كيف يخلق وعياً أميركياً في مواجهة النازية وهتلرها، من دون أن يكون نوعاً من خطاب سياسي وأيديولوجي ممل.

كل هذا نعرفه كما نعرف مبارحة شابلن للولايات المتحدة وتوقفه عملياً عن تحقيق تلك الأفلام التي صنعت جزءاً كبيراً من علاقة الناس بالسينما، وأعادت خلق فن الكوميديا نفسه، لكننا في المقابل نعرف أنه ما إن أجبرت الولايات المتحدة على خوض الحرب منهية، ولو إلى حين، هتلر ونازييه، حتى استعاد كُثر من الأميركيين وعيهم ليعيدوا الفيلم إلى مكانته ويضعوه في مكان يستحقه، فنياً وسياسياً وأخلاقياً. وهذا كله يشكل على أية حال جزءاً من الإجابة عن تلك الأسئلة التي تحملها مسرحية تقول لنا الأشياء القليلة التي لم نكن نعرفها عن "الديكتاتور"، وتحديداً كيف كان مبدعه يعيش ويفكر فيما كان يكتبه ويقلق بشأنه.