في ظل تشدد الكثير من الكتّاب تجاه أصالة نصهم، تبرز جدلية أدبية إبداعية، تتمركز حول النص الأدبي المترجم.
فعملية الترجمة تتم بواسطة مترجم يملك الأهلية لنقل نص أدبي، سواء أكان قصة، أم رواية، أم شعرًا، أم أيّ نوع من الفنون الجميلة، من لغته الأم، إلى لغة أخرى؛ بهدف نقل المعرفة للآخر.
فالنص يبقى، ثقافة محصورة بحدود لغته، مقيدًا في جلباب ضيق؛ طالما أنه لم يترجم للغات أخرى، تطل بشاشاتها على عيون أكثر، هو ما يسمح -بعد ذلك- لأن تُقلع قناعات كاتب ما،- نحو العالمية.
ولما للترجمة من أهمية، لا يمكن للكاتب الأصل، أن يمانع ترجمة مؤلفه، لما لذلك من قيمة في توسيع بقعة الزيت الخاصة بمؤلفاته، فامتدادُها يفتحُ له شقًّا آخر، على طريق إبداعه.
حضارة متناقلة بالحواس
وتبدو فكرة الترجمة محيّرة، متفاوتة المعايير، فلا عقد بين اللغة وعقلين في اللحظة ذاتها، على أن تكون النتيجة واحدة في القياس، والقناعة، أو حتى شكل التأثر والتفكير.
وما أشبه تلك العملية الملتبسة، بعقد لقاء بين ممثل عن حضارة، وآخر مغاير بالكلية في ظروف التشكل والثقافة، ومن بعد ذلك، يطالب الثاني بأن يعرّف عن تلك الحضارة بلغته، لا بلغة الأول.
ضلع ثالث
فلا يكون هنالك ثقافة ولغتان، دومًا يتواجد ضلع ثالث للمثلث الإبداعي، ألا وهو ما وراء الكلمات الأصلية للنص.
ويتوجب حدوث عملية اختراق للكلمات الأصلية؛ للوصول إلى الرؤية التي أرادها المؤلف، ونقل التجربة في سياقها المراد. وهذا يتطلب نوعًا مِن "ميكانيزم" متبع من قبل المترجم، مُجمع على شكله، وطريقة تطبيقه.
وجرت النظرة التقليدية للترجمة، على اتباع المترجم طريقة دراسة الكلمات الموجودة في صفحة واحدة، بلغة ما، ثم تحويلها إلى لغة ثانية، في صفحة أخرى، وهو ما يعرف بترجمة الكلمة مقابل الكلمة، ثم القيام بالتعديل، والدمج الفني، وفقًا لمعايير وثقافة اللغة الأم للنص.
وهنالك أهم ما في العملية ألا وهو الهوية، والتعدي على تلك المساحة، يطلق عليها المثقفون لقب الخيانة. فيقول ناباكوف حول ذلك: "أسوأ الترجمات الأدبية، هي من تُجرد النص الأصلي، من هويته، وتقحم عليه معايير جمال اللغة المترجم إليها، ليتلاءم مع ذوق الآخر".
فلا بد للمترجم من القيام بعملية بحث، تتضمن دراسة الحالة النفسية والاجتماعية والشعرية للكاتب الأصل، بهدف الحفاظ على قداسة لغة نصه، وتجربته. بما يتساوق مع حقوق ملكيته الفكرية لنصه. من غير ذلك، لا يتأتى لأي مترجم أن يحصل على صفة الترجمة الآمنة، الترجمة النظيفة الخالية من التدليس، وتنشيز الأفكار داخل النص. وما هو عكسه يعدّ نية مسبقة لإحداث جريمة سطو على الأفكار، وتبديل وتزوير الرؤى تبعًا لأجندته الخاصة.
المؤلف الثاني
ومن الغريب تواجد الحُكم المسبق لدى البعض بأن عملية الترجمة هي عملية ثانوية، وغير ذات قيمة، مقابلة بالنص الأصلي.
وتدور في أرجاء المشهد الثقافي، حوارات متعددة، حول صيغة اعتبار المترجم كجزء أصيل من العمل المترجم، وكأن الترجمة أضحت مشروعًا تعاونيًّا بين مؤلفين، لضمان نجاح عملية النقل غير الملبوسة.
وهذا يتطلب من المترجم، أو المؤلف الثاني، أن يمتلك موهبة في الترجمة، فهي حالة إبداعية كغيرها من بقية الفنون، وتعبر عن ذلك المترجمة سارة كوتللي "نولد مترجمين، ولا نصبح فجأة كذلك".
جهد ميكروسكوبي
ومن بعد الموهبة تتطلب اتقانية الترجمة جهدًا شاقًّا من المترجم، باكتسابه لمهارات متطلبة، لممارستها احترافيًّا، وإبداعيًّا، وليس وظيفة النقل الصلبة فحسب.
فذلك الأمر يتطلب ليونة عالية في صقل التراكيب، والقيام بجهد ميكروسكوبي، إبان عملية تفحص النص، وفرز المشاعر الخاصة به، التي هي قدسيته، غير القابلة للتلاعب، أو التحوير.
تخفي المترجم
وهنا تحيلنا هذه المسألة إلى مرحلة أخرى من الانضباط تجاه النص الأصلي، بحيث تكون الترجمة وسيلة اشتقاق دائمًا وأبدًا في إطار وحدود ثقافة النص، بهدف نقل الأمانة المعرفية، وإيصال النص السليم دون خدش، أو تشويه.
ويقول إيريك بوري عن ذلك إن "المترجم يختفي خلف الكاتب، ويترك أسلوبه هو الذي يظهر، فالمترجم ليس سوى وسيلة، وحتى يتمكن المترجم من محاكاة أسلوب الكاتب، فعليه الذهاب إلى حد إعادة إنتاج النص من جديد".
وهنا ليس المراد باختفاء المترجم، إنكار حقه، وتعبه على النص، بل إن اعتبارية المترجم تكون أكثر ثقلًا، طالما نجح في إنتاج نص كأصله، أو أقرب ما يكون إليه.
لغة ميتة
إن المعرفة الإنسانية، مدانة لجهد المؤلف، في التقاط ما يتساقط من الوعي الجمعي، وتقديمه بلغة تبقى ميتة ما لم ينشط التفاعل الكيميائي بينها وبين الذهن الإنساني.
كما أن هنالك فضلًا لا يمكن إغفاله، للمترجم الذي يستخدم قصارى خياله، في التفكير والتخليص، لنقل محتوى النص الأم. وقد أحيطت أسلوبية الترجمة بجهد ضارٍ، لولاه، لما كان لكل هذا الدفق من التحضر، والمعرفة، أن يسري في المعمورة.