عبدالباسط سيدا
تحركات دبلوماسية أميركية، وتصريحات، وعقوبات غير مسبوقة، واتصالات مع مختلف الأطراف، توحي بسياسة أميركية مغايرة لتلك التي اعتمدها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما نحو إيران، سياسة ترمي وفق ما هو معلن إلى كبح الجهود الإيرانية الهدّامة في دول المنطقة ومجتمعاتها.
إن وصول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في زيارة مفاجئة إلى العراق يدخل ضمن إطار التحركات المعنية، وذلك بعد سلسلة خطوات انفتاحية اعتمدها فريق الحكم الجديد في العراق برئاسة عادل عبدالمهدي؛ خطوات استهدفت تعزيز العلاقات بين العراق ومحيطه العربي على أمل استعادة التوازن بعض الشيء في المعادلات الإقليمية التي تؤثر عراقيا.
ويتمثل ذلك في حالة توزع مراكز النفوذ، والاصطفافات والاستقطابات التي تتسم بها لوحة القوى السياسية والعسكرية العراقية الحالية بانتماءاتها وتوجهاتها المختلفة.
ما يضفي أهمية خاصة على زيارة بومبيو أنها جاءت في أجواء تصفير تصدير النفط الإيراني، وفرض حزمة جديدة من العقوبات الأميركية التي شملت قطاع المعادن.
هذا إلى جانب إعلان الحرس الثوري منظمة إرهابية، فضلا عن اتخاذ القرارات بحق العديد من المسؤولين الإيرانيين، وقيادات حزب الله.
كل هذه الخطوات تؤكد وجود توجّه جديد في السياسة الأميركية نحو إيران، وهذا ما يُستشف أيضا من التحركات العسكرية الأميركية التي تمثلت في إرسال حاملة الطائرات أبراهام لينكولن، وقاذفات بـ52 إلى المنطقة.
وليس من المستبعد أن تكون هناك خطوات أخرى تتمثل في تعزيز إمكانيات القوات الأميركية الموجودة في العراق أصلا، أو تلك التي يمكن أن تصل إليه في أي لحظة.
وما يستنتج من مختلف التحركات هو أن العراق لن يكون، مثلما كان منذ سقوط نظام صدام حسين وحتى الآن، ساحة مفتوحة للتواجد الإيراني الذي تحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع.
وهناك عوامل داخلية عراقية تساعد السياسة الأميركية، منها حالات الفساد الفلكية التي اتسمت بها حكومة نوري المالكي التي كانت تابعة في كل شيء للنظام الإيراني.
ولم تكن حكومة حيدر العبادي نفسها بعيدة عن أمر كهذا. وقد ولّدت تلك الحالات تذمرا لافتا في الشارع العراقي بصورة عامة، وفي الشارع الشيعي الوطني في الجنوب على وجه الخصوص، كما الإخفاق في معالجة تبعات ملف الموصل، ومناطق سنجار، بالإضافة إلى الأسئلة التي مازالت تنتظر الإجابات، وهي الأسئلة التي تدور حول العوامل التي ساعدت داعش في السيطرة السريعة على الموصل والمناطق المحيطة بها بما في ذلك سنجار.
يضاف إلى هذه العوامل، تمكّن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني من فرض نفسه عبر الانتخابات على المستويين الكوردي والعراقي العام، الأمر الذي حقق توازنا في هذين المستويين.
هذا إلى جانب التوافق الذي تم حول عادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء؛ وهو توافق لم يكن له أن يتم لولا الضغط الأميركي، والتراجع الإيراني الاضطراري.
أما سوريا، فيبدو أن حالة مناطق النفوذ ستدوم إلى حين آخر. وهذا معناه أن الولايات المتحدة ستستمر في استخدام ورقة منطقة شرقي الفرات ضمن إطار حساباتها الخاصة بتوازنات الوضعية العراقية، والاحتمالات المستقبلية.
وهي ورقة مهمة على صعيد ضبط العلاقة مع تركيا في سياق عملية إعادة صياغة معادلات ضبط المنطقة من جديد.
ورغم ما يُشاع هنا وهناك حول خلافات أميركية روسية بشأن الملف السوري، إلا أنه في التوجّه العام يُلاحظ وجود توافق على الخطوط العامة من جهة تحديد مناطق النفوذ، وإعادة رسم الحدود بينها من حين إلى آخر، وذلك لاعتبارات ميدانية، وأخرى تتصل بحسابات إقليمية.
ولعل تصريحات جيمس جيفري الأخيرة بخصوص التفاهم مع الروس حول ما يجري في جنوب إدلب وشمال حماة، تؤكد استمرارية التفاهمات رغم التصريحات المتشنجة التي تصدر عن المسؤولين الروس، وهي تصريحات باتت جزءا من عُدّة الشغل إذا صح التعبير.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل سيستمر التفاهم الأميركي الروسي بخصوص ترتيب الأوضاع في سوريا، أو على الأقل المحافظة على عملية توزّع القوى الأجنبية المنخرطة في عملية الصراع على البلد إلى حين آخر، وذلك ريثما تتبلور ملامح التطورات المقبلة التي ستشهدها الساحة العراقية؟ أم أن روسيا لن تتخلى عن تحالفها مع الإيرانيين، وتفاهماتها مع الأتراك، وذلك استعدادا لمعرفة تبعات الجهود التنافسية مع الأميركان في ساحات أخرى.
وما يستنتج من القرائن المتوفرة حاليا هنا وهناك، هو أن اللوحة السورية لن تشهد تغييرات دراماتيكية في المدى المنظور، وربما على مدى العامين القادمين. لأن المسرح مهيّأ للمشهد العراقي الذي سيؤثر بطبيعة الحال في المشهدين السوري واللبناني.
وفي الحالة العراقية، هناك دور لافت للقوى العراقية الداخلية التي ستضطر، في حالة اشتداد الضغط الأميركي، إلى إعادة النظر في مواقفها ومواقعها من التنافس الأميركي الإيراني.
وهي حالة ليس من المستبعد أن تتحول إلى وضعية صراع غير مباشر عبر القوى الإقليمية والمحلية، وربما إلى صراع مباشر محدود إذا ما أصرّت إيران على التصرف وفق شعاراتها المعلنة.
وتبقى أسئلة معلّقة مفتوحة بخصوص الدور العربي في التقريب بين العراقيين، غير المرتاحين، بمختلف انتماءاتهم، للتغلغل الإيراني في العراق، واتخاذه قاعدة للانتشار في دول المنطقة، وتهديد الأمن والاستقرار فيها.
يبدو أن المنطقة ستشهد صيفا ساخنا، ولكن هل سيقتصر ذلك على الجانب الدبلوماسي، والتشدد في اتخاذ المزيد من العقوبات والإجراءات التهديدية الرادعة؟ أم أنه سيتجاوز ذلك إلى اشتباك عسكري محدود، ربما يكون مقدمة لصراع أوسع يكون مدخلا لعملية تفاهمات دولية إقليمية جديدة، ولكن بشروط تتناسب مع المتغيرات التي كانت، والحسابات المستقبلية؟
الجميع في انتظار ماهية الموقف الأميركي الذي ليس من السهل التكهن به. فهناك حسابات كثيرة معقدة تؤخذ بعين الاعتبار في أي سعي يتناول ترتيب الأوضاع مجددا في منطقة هامة كمنطقة الشرق الأوسط. كما أن حملة الانتخابات الأميركية باتت على الأبواب، وهي تؤدي عادة إلى إرجاء البتّ في القرارات الصعبة، ولكن من يدري، فربما تتخذ الإدارة الحالية من عملية الإقدام على مثل هذه القرارات متكأ للاستمرارية.
كاتب سوري