خيرالله خيرالله
هناك جائزة كبرى تسعى ايران الى الاستحواذ عليها نهائيا. هذه الجائزة اسمها العراق. هل مسموح في نهاية المطاف ان تسيطر ايران على العراق وان تعتبره جرما يدور في فلكها محققة ما عجزت عنه في مرحلة ما بعد انتصار سقوط الشاه وقيام "الجمهورية الإسلامية" في العام 1979 بقيادة آية الله الخميني؟
لم يكن لدى الخميني وقتذاك من حلم سوى السيطرة على العراق الذي فاجأ الايرانيين بسنتّه وشيعته عندما استطاع تحقيق شبه انتصار في حرب استمرت بين 1980 و1988 وقف فيها شيعة الجنوب العراقي، خصوصا، سدّا امام التمدّد الايراني.
تمثّل سيطرة ايران على العراق، بعد العام 2003، التحوّل الابرز الذي طرأ على التوازن في الاقليم كلّه. أي على المنطقة الممتدة من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي مرورا بمنطقة الهلال الخصيب الذي تريد ايران استخدامه لربط طهران بالبحر المتوسط، أي ببيروت. لم يكن لهذا التحوّل ان يتحقّق لولا الولايات المتحدة التي قرّرت في عهد بوش الابن التخلّص من النظام العراقي عبر حرب شاملة على العراق. خرج من هذه الحرب منتصر واحد هو ايران التي اعتبرت ان مشروعها التوسّعي في المنطقة صار قابلا للتحقيق في ظلّ العلاقة الوثيقة التي اقامتها مع النظام السوري ذي الطبيعة الاقلّوية، وهي علاقة وجدت ترجمة لها في لبنان حيث جرى التخلّص من رفيق الحريري بصفة كونه انتقل من مرحلة الزعيم السنّي اللبناني الى مرحلة الشخصية العربية القادرة على إيجاد مكان لها بين كبار هذا العالم.
في الإمكان، على هامش ما يجري في العراق، الخوض طويلا في موضوع عنوانه ما يدور في لبنان الذي تبيّن انّه بات عاجزا في السنة 2019 عن تشكيل حكومة، علما انّ الانتخابات النيابية فيه اجريت قبل ما يزيد على ثمانية اشهر. يتبيّن يوميا ان الحكومة اللبنانية رهينة لدى ايران، بل ان البلد كلّه صار في الاسر الايراني.
لا يدلّ على مدى تدهور الوضع في لبنان اكثر من هزالة القمة العربية الاقتصادية التي تستضيفها بيروت. لم يسبق لاي قمّة عربية من ايّ نوع ان واجهت الصعوبات التي تواجهها قمّة بيروت حيث وجد من يعترض على مشاركة ليبيا التي تخلّصت من معمّر القذافي، في حين استضاف في العام 2002 قمّة عربية حضرها ممثل شخصي للقذّافي!
المطلوب، في ما يبدو، تحويل لبنان كلّه الى مهزلة لا اكثر. لا شكّ ان ايران نجحت في ذلك الى حدّ كبير. نجحت خصوصا في عزل لبنان عن محيطه العربي وعن اهل الخليج تحديدا. لم يعد ينقص سوى اليوم الذي تتمكن فيه ايران من نسف اتفاق الطائف من جذوره واحلال اتفاق آخر مكانه يجعل منها بطريقة شرعية السلطة الفعلية في لبنان.
تخوض ايران حاليا معركة كسر عظم مع الولايات المتحدة في العراق. هذا ما يفسّر الى حد كبير ذلك الإصرار على التحكّم بمفاصل السلطة في العراق والانتهاء من ايّ وجود عربي فيه. ان يقوم العاهل الأردني عبدالله الثاني بزيارة سريعة لبغداد امرّ اكثر من ضروري. تسمح مثل هذه الزيارة التي ترافقت مع تلك التي قام بها للعراق وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف بمعرفة هل لا يزال هناك مجال لترميم الجسور بين بغداد والعواصم العربية؟
عاد عبدالله الثاني الى عمّان في اليوم ذاته، في حين بقي ظريف على رأس وفد كبير في العراق حيث تصرّف كأنّه صاحب البيت في حين كان المسؤولون العراقيون الذين استقبلوه اشبه بالضيوف. هناك مشروع إيراني واضح بالنسبة الى العراق. تنوي ايران بكلّ بساطة نقل تجربة "الحرس الثوري" الى العراق كي تكون في يدها أداة تتحكّم بواسطتها بالبلد. هذا ما يفسّر ذلك الإصرار على ان يكون فالح الفيّاض وزيرا للداخلية بصفة كونه رمزا لتكريس شرعية "الحشد الشعبي" بكلّ ما يمثله من حكم للميليشيات المذهبية للعراق وامتداد لـ"الحرس الثوري" الايراني.
حرص وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو على زيارة بغداد خلال جولته الأخيرة في المنطقة. لم يكد وزير الخارجية الاميركي، الذي يعتبر من صقور إدارة دونالد ترامب، يغادر العاصمة العراق حتّى علت أصوات تطالب بانهاء الوجود العسكري الاميركي في العراق. هناك جوقة إيرانية في العراق، تضمّ ميليشيات مذهبية تنادي بكلّ ما تطالب به ايران. معظم افراد هذه الجوقة عادوا الى بغداد من طهران على ظهر دبابة أميركية. يمثّل هؤلاء رأس الحربة في جعل الحكومة العراقية تدار من بغداد وتحويل العراق مجرّد مستعمرة تستخدم في اطار التحايل على العقوبات الاميركية على ايران.
كانت اميركا في أساس الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني. كانت هذه الانطلاقة من العراق وليس من مكان آخر. كلّف العراق الخزينة الاميركية عشرات مليارات الدولارات. ظهر بوضوح ان اميركا لا تعرف شيئا عن العراق ولا عن الاطماع الايرانية في العراق. كانت تبشّر بعراق ديموقراطي يكون نموذجا للدول الأخرى في المنطقة. استطاعت ايران إخراجها شيئا فشيئا من العراق بعدما قرّر باراك أوباما ان يكون حليفا لها ودخل معها في صفقات كان من اهمّها على الاطلاق تولّي نوري المالكي موقع رئيس الوزراء بعد انتخابات العام 2010 وسحب القوات الاميركية من العراق في الوقت ذاته.
امتلكت الولايات المتحدة في الأصل الموارد الكفيلة بإنجاح مشروعها العراقي الى ان ظهر انّ هذا المشروع مبني على أوهام وأفكار ساذجة اكثر من ايّ شيء آخر. في المقابل، امتلكت ايران ما يكفي من الدهاء لجعل المشروع الاميركي في مصلحتها وصولا الى مرحلة استطاعت فيها تجيير ثروات العراق وجعلها تصبّ في اطار أوسع هو مشروعها التوسّعي الذي يغطي الاقليم كلّه. الفارق بين ايران وأميركا ان ايران لا تمتلك الموارد الاميركية لكنهّا تمتلك ادواتها العراقية فضلا، في طبيعة الحال، المعرفة بأدق التفاصيل الداخلية في بلد تعرف تماما ان معظم الشيعة فيه لديهم انتماء وطني للعراق مطلوب الانتهاء منه بكلّ الوسائل المتاحة.
هل لا يزال لدى الولايات المتحدة ما تراهن عليه في العراق؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما قد يخدمها في الجولة الجديدة التي تخوضها مع ايران الوضع الداخلي في ايران حيث نظام فشل بعد أربعين سنة على قيامه في توفير أي نوع من الحياة الأفضل للإيرانيين التائقين، في معظمهم، الى العودة الى ثقافة الحياة في ظلّ حنين الى ما كانت عليه ايران أيام الشاه بحسناته الكثيرة ومساوئه التي توازي هذه الحسنات.