من الواضح أن القراء الروس، كما غيرهم من قراء منتشرين حول العالم ولا يزالون يقبلون بعشرات اللغات على قراءة الروايات الكلاسيكية والشغف بها، لا يريدون أن يبرأوا من ذلك الهيام الذي ربطهم يوماً خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر بتلك السيدة التي سماها ليو تولستوي آنا كارينينا، وروى حكايتها في رائعته التي حملها ذلك الاسم عنواناً.
ويبقى هنا سؤال أساسي يطرح نفسه: ترى لو لم تحظَ تلك الحسناء بكاتب من طينة تولستوي يتبنى عواطفها ويحكي قصتها، هل كان ممكناً أن تكون لها كل تلك المكانة التي حظيت بها في التاريخ؟ ينطرح هذا السؤال انطلاقاً من واقع يتسم بقدر كبير من البساطة: فلولا قلم تولستوي وموهبته الأدبية الاستثنائية، من المؤكد أن حكاية تلك المرأة الصبية التي تجد نفسها عشيقة لرجل غير زوجها ما يربكها ويدمر حياتها موصلاً إياها إلى الانتحار في نهاية الأمر تحت عجلات قطار، هذه الحكاية ما كان من شأنها لولا الكاتب الكبير أن تشغل العالم قرناً ونصف القرن.
فهي في نهاية الأمر حكاية أقرب إلى العادية تحدث في كل مكان وزمان ولا تحمل من الأحداث "الكبيرة" ما كان من شأنه أن يملأ مئات كثيرة من الصفحات، ولكن موهبة تولستوي وقلمه مرا من هنا. و"عاشت" الحسناء كما عاشت حكايتها حتى اليوم، بل هي تبدو اليوم، في العالم ولكن في روسيا بخاصة، "حية" أكثر من أي وقت مضى، يكتب عنها وتبجل وتستعاد حكايتها لمناسبة ولغير مناسبة، ناهيك بطباعة الرواية نفسها ونشرها باستمرارية تجعلها لا تغيب عن واجهات المكتبات.
آنا وأخواتها
لا تغيب إذاً أخت "مدام بوفاري" وابنة عم الليدي تشاترلي هذه ورفيقة "إيفي بريست" في الوقوع في الحب وشراكه وصولاً إلى تلك النهاية المعتمة، لا تغيب، إلا لتعود أكثر قوة وأحياناً بطرق مبتكرة قد يكون من الصعب أن تخطر على البال ولا سيما في "مسقط رأسها" الروسي.
ولعل آخر جديد لافت في هذا السياق ذينك العملين اللذين حملا اسم آنا كارينينا على كثرة الفوارق بينهما وإن كانا ظهرا في حقبة زمنية واحدة تقريباً خلال السنوات الأخيرة. العمل الأول كتاب يحتوي ما يمكن اعتباره تحقيقاً حول آنا كارينينا. أما الثاني ففيلم ينطلق من نهاية تلك الحسناء التعيسة ليبني من حولها حكاية تدور بعد انتحار آنا بنحو ثلاثة عقود. ولنبدأ هنا بالكتاب الذي بدا للنقاد الروس على أية حال متسماً بشيء من الأهمية لكنهم حكموا عليه في الوقت نفسه بأنه يفتقر إلى ما كان يتطلبه الموضوع من عمق. وللكتاب على العموم عنوان يبدو مغرياً وجذاباً إلى درجة أن هذا البعد هو ما أثار حنق النقاد إذ رأوا في نهاية الأمر أن النص الواقع في مئات الصفحات لم يفِ بالوعود الماثلة في العنوان وهو "الحكاية الحقيقية لآنا كارينينا".
تحقيق لا يفي بوعوده
وضع الكتاب الصحافي الروسي بافيل باسينسكي، وهو ناقد وكاتب معروف ومعروف بخاصة بالدراسات العديدة التي كرسها لكتابات تولستوي وحياته وصدر منها خمس دراسات حتى الآن هذه آخرها. ومنذ مفتتح كتابه يقول باسينسكي بحسب المقالات الصحافية التي راجعت كتابه، إنه إنما يزور هذه الرواية من جديد لأنها باتت تبدو له مجهولة تماماً بسبب "كثرة الاقتباسات السينمائية والتلفزيونية التي لم توفها حقها وطمست كثيراً من معالمها". ويستطرد المؤلف هنا قائلاً في مقال نشره في صحيفة "فيدوموستي" ونقلته مجلة "بوكس" الفرنسية في واحد من أعدادها الأخيرة "إن هناك أكثر من 30 اقتباساً سينمائياً لهذه الرواية الكبيرة. ولكل اقتباس قيمته التي لا تنكر ولكن قلة منها تنقل حقاً ما الذي يحدث في الرواية" ناهيك بأن "أياً منها لا يوضح لنا مثلاً ما إذا كانت آنا قد قابلت فرونسكي قبل ارتباطهما بحكاية العشق المدمر". يقول الكاتب مضيفاً "وأياً منها لا يوضح لنا أمراً مهماً: إذا كان الطلاق مسموحاً في روسيا خلال تلك الحقبة، فلماذا لم تطلبه آنا؟".
جذور في الواقع لشخصية آنا
مهما يكن من أمر، ينطلق المؤلف بعد مثل هذين السؤالين للحديث عن النماذج البشرية الحقيقية التي بنى عليها ليف تولستوي شخصية بطلته ومنها شخصية شقيقة هذا الأخير ماريا نيكولاييفنا تولستويا، وشخصية ماريا هارتونغ الابنة الكبرى للشاعر ألكسندر بوشكين. كما يتوقف عند حادثة انتحار تحت عجلات قطار عايشه تولستوي بنفسه وكانت ضحيته آنا بيغوريفا، التي كانت تعمل مربية كما كانت عشيقة لجار للكاتب الكبير، الذي يؤكد كاتبنا المعاصر أنه حضر بنفسه تشريح جثمانها واستعار حكايتها لخاتمة روايته. كل هذا جميل، علق كثر من النقاد، لكنه "كان معروفاً منذ زمن بعيد بالتالي فإن الكاتب باسينسكي لم يأتِ بأي جديد". أما الجديد الحقيقي فكان في مكان آخر تماماً. كان في ذلك الفيلم الروسي الذي ظهر قبل فترة من ظهور هذا الكتاب وبدا لافتاً للنظر حقاً و"جديداً" في موضوعه بل بدا حافلاً بقدر لا بأس به من الابتكار.
بعد 28 سنة!
إذا كانت رواية تولستوي تحدد بدقة تاريخ انتحار آنا يوم 3 يونيو (حزيران) 1876، فإن الفيلم الذي يحمل عنوان "آنا كارينينا: حكاية فرونسكي" يدور بعد ذلك بـ28 سنة، أي عند بدايات القرن العشرين في خضم اندلاع الحرب الروسية اليابانية وعلى خلفية الضربات الموجعة التي كان الجنود الروس يتلقونها أفراداً وجماعات تحت نيران المدفعية اليابانية. للوهلة الأولى قد تبدو هذه الأحداث غير ذات علاقة برواية تولستوي ولا بالزمن المفترض لأحداثها، ولكن هذا ليس صحيحاً، كما سنرى على الفور. ففي عز تلك المعارك كان ثمة عقيد مكتهل في الجيش الروسي يصل جريحاً منهكاً إلى مستشفى ميداني كان ينقل إليه الجنود الروس لمداواتهم.
وكان يدير ذلك المستشفى الطبيب الشاب سيرغاي كارينين الذي سرعان ما سندرك أنه ليس سوى الابن الذي تركته آنا طفلاً في عهدة زوجها يوم انتحرت، لكن الأهم من هذا هو أن العقيد الجريح ليس سوى الكساي فرونسكي الرجل نفسه الذي عشقته آنا وانتهت من أجل عشقه إلى تلك النهاية المأساوية. ولئن كان من الصعب على العقيد أن يتعرف على هوية طبيبه الشاب فإن هذا تعرف عليه بسرعة وقد أدرك من فوره أنه الرجل الذي دمر عائلته وتسبب في موت أمه.
مجابهة بين رجلين
من الواضح أن الطبيب الشاب غير راغب الآن في مسامحة العقيد الكهل على ما فعل... فغضبه استيقظ فوراً من سبات كان يعتقده نهائياً ما إن وقعت عيناه على الضابط الجريح. وعلى هذا النحو يتجابه الرجلان بقوة وعنف، لكن فرونسكي سرعان ما يتمكن من تهدئة الموقف ويبدأ بحكاية كل ما حدث لابن حبيبته، مستعيناً بذاكرة لم تخب على الرغم من مرور السنوات وربما أيضاً بعاطفة إلى تلك الحبيبة لم تهن أبداً. وبالتدريج وبعد أن يهدأ غضب سيرغاي ويبدأ بتفهم حكاية أمه بصورة مختلفة عما كان قد بقي منها في ذاكرته وبخاصة بصورة مختلفة عن رواية أبيه للحكاية، نصبح، بدلاً من حكاية صدام بين رجلين من حول حدث كان يفترض أن السنوات قد طوته، نصبح أمام حكاية أخرى تقوم على استعادة هذين الرجلين نفسيهما لذكر تلك المرأة التي أحباها معاً وإن كل على طريقته، وللذكريات التي صنعت لدى كل واحد منهما تصوراً لحياة تلك المرأة وحسرة على موتها المفجع، ونوعاً من التحية المدهشة لذلك الحب الذي بدا من خلال هذا العمل أنه يرفض أن يموت على الرغم من مرور السنين. ومن المؤكد أن هذه التحية الأخيرة التي ختمت مشاهد استعادة حكاية آنا من قبل هذين المحبين الباقيين لها، هو الذي أمن لذلك العمل نجاحاً شعبياً كبيراً سواء حين قدم كفيلم سينمائي ونال جوائز عديدة في روسيا، أو قدم على حلقات تلفزيونية تابعها الجمهور الروسي بشغف، وقد عاد مئات الألوف من أفراده إلى الرواية يقرأونها من جديد وربما يذرف كثر منهم دموعاً غزيرة حزناً على حكاية عشق، أو ربما تحسراً على ذلك الزمن الذي كان للحب وللشغف مكانة أثيرة فيه حتى وإن كان قاتلاً انتحاراً تحت عجلات قطار!