طوني فرنسيس
لم تعلق سلطات النظام السوري على كتاب المبعوث الأميركي فريدريك هوف الصادر أخيراً، مثلما لم تعلق على مقاله الذي نشره قبل عام بالتمام والكمال، وفيه يمهد لما سيقوله في مؤلفه "بلوغ المرتفعات: قصة محاولة سرية لعقد سلام سوري - إسرائيلي"، الصادر عن المعهد الأميركي للسلام في واشنطن.
حمل المقال المنشور في موقع "نيو لاينز ماغازين" عنواناً مثيراً سيمهد لما سيحتويه الكتاب. في عنوان المقال: "الأسد: مزارع شبعا سورية بغض النظر عما يدعيه حزب الله"، أما في الكتاب فقد تولى محضر اجتماع عقد يوم 28 فبراير (شباط) 2011، قبل أقل من شهر على اندلاع الاحتجاجات الشعبية السورية في درعا، وبعد أيام من زيارة الرئيس بشار الأسد إلى الكويت (حيث شارك بدبابات متهالكة في عرض عسكري طغى عليه الحضور الأميركي بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي) عرض وجهة النظر السورية من ورقة إسرائيلية أميركية بشأن اتفاق سلام سوري - إسرائيلي.
كان الأسد متحمساً للاتفاق إلى حد نسيانه جوهر المشكلة، وهو القضية الفلسطينية، وفي السياق ألغى كل الأدبيات السورية الرسمية بشأن المقاومة في فلسطين ولبنان. فبنود الورقة التي وافق عليها كانت تقضي بألا تكون سوريا مقراً أو ممراً للمنظمات الفلسطينية أو لـ"حزب الله"، وقضت أيضاً بالعمل لسلام مع إسرائيل من دون الإشارة إلى حل نهائي للمشكلة الفلسطينية. وخلال الحديث حول تلك البنود أقر الأسد بأمرين ينسفان خطابات مزمنة حول المقاومة والتحرير في لبنان: استعداد "حزب الله" للسير في الاتفاق المزمع عقده من جهة، والإقرار بأن مزارع شبعا، التي جعلتها القيادة السورية ذريعة لها ولـ"حزب الله" لاستمرار حمل السلاح، بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في عام 2000، خارج إطار السلطات الشرعية اللبنانية بحجة المقاومة لتحريرها، هي في الواقع أراضٍ سورية احتلتها إسرائيل في حرب 1967، وإن كانت ملكيتها تعود إلى لبنانيين.
كلام الأسد جاء من خارج بنود ورقة الاتفاق، وبدا كأنه تبرع إضافي لإغراء الجانبين الأميركي والإسرائيلي بمحاسن التعامل معه كعنصر حاسم في سياسات المنطقة. وفي الحقيقة لم تكن مباحثات هوف والمبعوث الأميركي الخاص جورج ميتشل مع السوريين منفصلة عن مباحثات أمنية على أعلى المستويات بين الطرفين. وكشفت وثائق "ويكيليكس" نقلاً عن وثيقة للسفارة الأميركية في تل أبيب بتاريخ 18 يونيو (حزيران) 2009 أن وزارة الدفاع الإسرائيلية ترى أن المفاوضات ممكنة، لأن العلاقة بين سوريا وإيران هي بمثابة "زواج مصلحة"، وأن مسؤولين أميركيين يرون أن الإيرانيين سيرغبون في التخلص من نظام الأسد في الوقت المناسب لهم.
وتشير وثيقة أخرى إلى قول رئيس الاستخبارات السورية، علي مملوك، للمدير العام لدائرة الاستخبارات الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب، دانيال بنيامين، إن سوريا أكثر نجاحاً من أميركا في مكافحة الإرهاب. وأوضح خلال اجتماع 18 فبراير (شباط) 2009، بحضور فيصل المقداد (وزير الخارجية السورية حالياً ونائبه في حينه)، وعماد مصطفى السفير السوري في واشنطن: "من حيث المبدأ، نحن لا نهاجمهم أو نقتلهم فوراً، نزرع عناصر بينهم. وفقط عندما تحين الفرصة المناسبة نقدم على التحرك".
وفي خلاصة ذلك الاجتماع شدد المملوك والمقداد على أن سوريا يجب ان تتولى مركزاً ريادياً في الساحة الإقليمية، وأن أي تحسن في العلاقات مع أميركا "يسهل عملية مقارعة الإرهاب".
"نزرع عناصر بينهم"، هو الأسلوب الذي سيستخدمه النظام بكفاءة بعد أشهر في مواجهة الاحتجاجات، لكن قبل ذلك نعود إلى كتاب هوف ومقدار الحماسة والثقة في كلام الأسد ومدى استعداده للذهاب بعيداً في ملاقاة الأميركيين والإسرائيليين، هو الذي كان نعت القادة العرب بـ"أشباه الرجال"، وذهب إلى القمة العربية الطارئة في الدوحة بشأن الهجوم الإسرائيلي على غزة في ديسمبر (كانون الثاني) 2009 ليقول أمام الحضور "مؤتمرنا اليوم يهدف للوقوف إلى جانب غزة، وليس للبحث عن تسويات بهدف إرضاء إسرائيل أو من يقف معها"، وفي هذا السبيل "ضحّى" الأسد بأمرين: أوقف مفاوضاته مع إسرائيل عبر تركيا، وأعلن أن "المبادرة العربية" التي رعتها السعودية، وتبنتها قمة بيروت العربية هي في حكم "الميتة أصلاً"!
غير أن ديوان الحماسة الغزاوي سرعان ما تبين أنه كان مجرد كلام لا معنى له، فالمفاوضات مع إسرائيل استمرت بوساطة أميركية وحديث المقاومة انتهى إلى كشف الهدف من الاستثمار فيها.
يكشف هوف كيف أن الأسد وافق من دون ملاحظات على مشروع سلام مع إسرائيل جوهره استعادة الجولان من دون أي اهتمام بالموضوع الفلسطيني، لا في غزة ولا في الضفة.
لا وجود لفلسطين
باختصار، لا وجود لفلسطين في ذلك المشروع. وفي المقابل، أكد الأسد خلال المناقشات، أن "لبنان وإيران وحزب الله سوف يلتزمون بمعاهدة السلام بين سوريا وإسرائيل في حال انسحاب إسرائيل إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967"، ليستطرد قائلاً: "سيفاجأون بالسرعة التي سوف يلتزم بها حسن نصر الله بمجرد إعلان كل من سوريا وإسرائيل التوصل إلى اتفاق سلام".
وفي تفسير بدا وكأنه إغراء للأميركيين وتطوير سوري للنظرية السورية القديمة حول مبادلة الجولان بسيطرة سوريا على لبنان، بدا الأسد مستعداً لتقديم لبنان إلى "حزب الله" مقابل استرداد الجولان.
قال هوف إنه سأل الأسد كيف لديه هذه القناعة بقبول نصر الله نظراً إلى ولائه لإيران، فأجابه أن "نصر الله عربي لا فارسي... وفي حال توصل سوريا إلى سلام مع إسرائيل لن يتمكن من الحفاظ على منصبه كزعيم للمقاومة، إلا أنه ممثل أكبر جماعة طائفية في لبنان وحزبه مؤسسة قدرها الاضطلاع بدور قيادي في السياسة اللبنانية الداخلية"!.
بعد أقل من شهر على لقاء المكاشفة الصريح بين هوف والأسد انفجرت الأوضاع في سوريا ومنع البيت الأبيض موفده من القدوم إليها. وحتى الآن، من غير الواضح إذا كانت إيران لعبت دوراً في تفجير تلك الأوضاع لمنع مسار التسوية المتقدم، لكن النتائج تتحدث عن نفسها، فبدلاً عن الحصول على لبنان فقط، حصلت إيران على سوريا ولبنان، ولا يزال الجولان ملحقاً بإسرائيل، مع اعتراف رئاسي أميركي بشرعية ضمه.