قبل خمسة أيام، انفض جمع المشاركين في المفاوضات حول ملف إيران النووي بفيينا، دون إحراز تقدم، وسط تعنت طهران على موقفها.
لكن طهران، التي ماطلت كثيرا في العودة لطاولة المفاوضات، وقبلت الجلوس مجددا مع ممثلي أطراف الاتفاق النووي، في الجولة السابعة، لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى في سبيل إحياء اتفاق 2015، وعودة واشنطن إليه، لتخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها، وهو أمر لن يكون دون مقابل بطبيعة الحال.
وقد أعلن المبعوثان الروسي والصيني للمحادثات النووية مع إيران، انتهاء الجولة السابعة من مباحثات الاتفاق النووي الإيراني، دون إحراز تقدم، على أن تستأنف قبل نهاية العام الجاري، الذي لم يبق منه غير أسبوع واحد، دون تحديد موعد لاستئناف المحادثات.
وتذهب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في تحليل مطول نشرته أمس الثلاثاء، إلى أن إيران ليس في قدرتها التمادي دون التوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي، نظرا لعوامل داخلية تتعلق بالوضع الاقتصادي، وخارجية ترتبط بالأمن، والوضع الجيوسياسي.
ويقول التقرير إن إلقاء نظرة خاطفة على الأزمات الاقتصادية، والسياسة الخارجية والأمنية، يحتم الدخول في صفقة فعالة ترفع العقوبات الأمريكية على طهران، حتى ولو لبضع سنوات فقط؛ إذ لا يمكن لأي حكومة إيرانية أن تواجه بشكل مناسب معظم أو كل هذه التحديات.
ويعدد التحليل الذي كتبه سجاد صفائي، من معهد "ماكس بلانك" للأنثروبولوجيا الاجتماعية بألمانيا، الوعود الطموحة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وتشمل بناء مليون وحدة سكنية سنويا، ومحاربة التضخم، كأولية للحكومة، وحل المشاكل المالية لمعلمي إيران، ومعالجة انهيار العملة، وخلق مليون فرصة عمل.
مشيرا إلى أن تنفيذ تلك الوعود لا يمكن، طالما استمر تأثير العقوبات الأمريكية التي تخنق الاقتصاد الإيراني، مستبعدا واقعية خطاب إدارة رئيسي حول سياسة "التوجه إلى الشرق"، إذا لا يمكن لدعم دول الشرق، (روسيا والصين واليابان) وحدها أن تعمل كبديل في مواجهة عقوبات وهيمنة الولايات المتحدة، كما لا يمكن فصل إنقاذ الاقتصاد المنهار، عن المحادثات النووية.
ويؤكد التقرير أن تخفيف العقوبات وحده ليس الدواء الشافي لجميع مشاكل إيران الاقتصادية. إذ أن هناك أيضًا عوائق أخرى أمام نموها الاقتصادي وتطبيع العلاقات التجارية مع بقية العالم، كما لا يمكن للعقوبات أن تؤدي بمفردها إلى الانهيار التام للاقتصاد.
ويلفت إلى أن إيران كدولة وإن أظهرت في السنوات الأخيرة قدرة على تحمل العقوبات، إلا أن الأخيرة تشكل عنق الزجاجة الرئيسي في التنمية الاقتصادية للبلاد، وتمس بشكل رئيسي حياة الإيرانيين العاديين الذين يعانون ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض القوة الشرائية، والبطالة، وهي عوامل تسرع أيضًا من هجرة الموارد البشرية القيمة.
إضافة إلى ما سبق ينضاف الفقر والتدهور البيئي ونقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي، وهو ما ينذر باحتمال اندلاع حرب أهلية في البلاد بشكل كبير، فعندما تظهر الشرعية المعيبة لصعود رئيسي إلى الرئاسة - بالكاد حرة أو ديمقراطية حتى بالمعايير الإيرانية - فإن النتيجة هي برميل بارود من الاضطرابات الاجتماعية، ينتظر الاشتعال، يقول التقرير.
لكن التحليل يعترف بأن الاضطرابات المدنية المرتقبة قد لا تؤدي إلى الإطاحة بالنخب الحاكمة في إيران بشكل تلقائي. ولكن يمكن أن تتحد مع الديناميكيات الأخرى التي تفرضها العقوبات - لا سيما الفشل في حل التوترات مع واشنطن وتطبيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع بقية العالم - لتقويض النفوذ الإقليمي للبلاد بشكل كبير على المدى الطويل.
يرى التحليل أنه لا يمكن لإيران التي تعاني من ضائقة مالية ومعزولة في خضم الحرب الأهلية المحتملة، أن تستجيب بشكل كافٍ للوتيرة السريعة للتغيير في المنطقة المحيطة بها، ومن المرجح أن يتحدى خصومها وأعداؤها الإقليميون موقفها ويهددونه، على الرغم من القوة العسكرية للبلاد.
ويقدم التحليل أدلة على هذه الفرضية، بالتأكيد على أن التطورات الأخيرة على أعتاب إيران تشير إلى التأثير المتآكل للعقوبات على قوتها الجيوسياسية، في أفغانستان المجاورة، التي تقع تقليديًا في مدار نفوذ طهران، التي بدا ردها على استيلاء طالبان السريع على البلاد صامتًا إلى حد كبير ، وهو ما يختلف مع الدور الملموس الذي تلعبه الجهات الإقليمية الفاعلة الأخرى.
وهذا الضعف الجيوسياسي لاحظه أحد أكثر الدبلوماسيين المخضرمين في إيران، حين وصف بلاده بأنها "الخاسر الإقليمي الرئيسي" بعد الانسحاب الأمريكي، فيما وصف باكستان خصم طهران بـ "المنتصر الأول"، إضافة إلى أن دولا أخرى لا تشترك في حدود مع أفغانستان، أظهرت نفسها أكثر قدرة بكثير من إيران في الاستفادة من الانسحاب الأمريكي.
واقتصر دور إيران في أزمة أفغانستان، إلى حد كبير على استقبال اللاجئين الفارين من طالبان، والمعدات العسكرية الأمريكية التي كان يديرها الجيش الأفغاني سابقًا، وحرصًا على عدم إثارة غضب جارتها الجديدة في الشرق، كان رد فعل طهران على استيلاء طالبان على السلطة يشبه رد فعل المتفرج القلق والمتحفظ، بحسب تعبير التقرير.
الضعف الإيراني الذي أظهر أن الخيارات الجيوسياسية لطهران محدودة، شجع الجيران في باكستان وتركيا وأذربيجان، على استجماع الثقة لاستفزاز إيران من خلال إجراء تدريبات عسكرية مشتركة عبر حدودها الشمالية الغربية؛ وحتى روسيا التي تعتبرها إدارة رئيسي ظاهريًا حليفة تُظهر اللامبالاة تجاه العديد من المخاوف والرغبات الرئيسية لطهران,
ويسوق المحلل السياسي دليلا آخر على ضعف إيران الجيوسياسي، بالقول إن تكاليف إغضاب طهران اليوم هزيلة للغاية لدرجة أن أذربيجان -وهي وفق قوله- دولة أصغر بـ 19 مرة من إيران، تشعر بالجرأة الكافية لتحويل نفسها إلى قاعدة للأنشطة المناهضة لإيران ولإثارة التوترات مع جارتها العملاقة في الجنوب.
ويعود التقرير إلى تلكؤ إيران في توقيع اتفاق جديد، أو تعديل الاتفاق الحالي، مؤكدا أن هناك خلافات واضحة بين إيران والولايات المتحدة حول كيفية العودة إلى الامتثال الكامل للاتفاق النووي عام 2015 ، نظرًا لأن واشنطن هي التي تراجعت أولاً عن التزاماتها وفرضت عقوبات على طهران.
ملفتا إلى أن طهران تخفيف العقوبات قبل أن تتحرك نحو الامتثال، وأن مصدر قلق إيران الرئيسي الآخر هو أنه حتى لو أبرمت صفقة إحياء مع إدارة الرئيس جو بايدن، فإن الرئيس الأمريكي المقبل يمكن أن يسيء إلى الاتفاق، وفي غضون ثلاث سنوات سيدخل الاقتصاد الإيراني حالة من الانهيار الحقيقي، بغض النظر عما إذا كانت طهران قد التزمت أم لا، وهذا يعيد إلى ما أكدته رئاسة دونالد ترامب من أن الانهيار المتوقع ليس احتمالا افتراضيا، بل هو واقع حقيقي.
لكن هذا الاحتمال وتداعياته الحقيقية طويلة المدى على الاقتصاد الإيراني، لا تعني أن طهران تتوخى فوائد قصيرة المدى لإحياء الاتفاق النووي، والتي يمكن أن تساعد إيران على المدى الطويل في مكافحة بلاء العقوبات المستقبلية في حالة فرضتها الولايات المتحدة عبر إدارة جديدة.
التحليل يرى في هذا السياق أنه إذا تمت استعادة الاتفاق النووي بالكامل خلال محادثات فيينا، فسيكون هناك ما لا يقل عن ثلاث سنوات قبل نهاية رئاسة جو بايدن، وعندها سيكون أمام إيران ثلاث سنوات على الأقل للمضي قدمًا نحو الاندماج في النظام المالي والاقتصادي العالمي.
ويفترض تحليل "وول ستريت جورنا"، أنه حتى لو كان الرئيس الأمريكي القادم معاديًا للصفقة مثل دونالد ترامب، فسيواجه الجمود البيروقراطي لمؤسسات الولايات المتحدة، وهو أمر من المرجح أن يثني خليفة بايدن المنتظر عن ترك الصفقة حتى لو كان معاديًا للاتفاق النووي.
من المرجح -بحسب التقرير- أن يؤدي الانهيار التام للمحادثات النووية إلى قلب الموازين في اتجاه خطير للجميع ، ولكن بشكل خاص بالنسبة لطهران،
فالنسبة لإيران يرى ساجد صفائي، أن فشل المحادثات سيسهل على الولايات المتحدة تصوير طهران على أنها منبوذة، وهو واقع سيقرب واشطن من الهدف الوحيد الذي فشلت في تحقيقه حتى الآن، وهو تجنيد الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي لتطويق إيران اقتصاديا ودبلوماسيا، من خلال مجموعة كبيرة من عقوبات يفرضها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
وكمقدمة لمثل هذا التصعيد قد تدعو إدارة بايدن لاجتماع طارئ لمجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق لمزيد من عزل إيرانـ بمساعدة مجموعة أوسع من البلدان، وليس الولايات المتحدة وحدها.
وينوه صفائي إلى أن الاستعادة الكاملة للاتفاق النووي لن تحول إيران تلقائيًا إلى قوة إقليمية عظمى مهيمنة قادرة على التهام المنطقة كما يزعم البعض، لكن يكون بمثابة نقطة انطلاق دبلوماسية يمكن من خلالها لإيران والولايات المتحدة التعاون وإدارة الخلافات حول القضايا المعلقة الأخرى.
ويختم بأن التأخير المتكرر في إحياء الاتفاق النووي سيعود بالفائدة على خصوم إيران الاستراتيجيين، في حين أن الانهيار الكامل للمحادثات إلى جانب برنامج نووي موسع قد يخلق أرضًا خصبة لزيادة التوتر بين واشنطن، مما قد يحيي لدى واشنطن وحلفائها الغربيين فكرة العمليات التخريبية ضد المنشآت النووية الإيرانية لكن هذه السيناريوهات ستتضاءل مقارنة بالتآكل المحتمل طويل الأمد للقوة الإيرانية تحت وطأة العقوبات والعلاقة المختلة مع واشنطن.
ويخلص التقرير إلى أن طهران بحاجة إلى استعادة الاتفاق النووي، لكن مسؤولي إدارة إبراهيم رئيسي ليسوا مؤهلين لهذا الدور.